الأربعاء، 10 سبتمبر 2008

الحيـاد البحثـيّ

الحيـاد البحثـيّ
تطبيقات على الدراسات العلمية للدكتور حسن الشافعي
د. نبيل فولي

الموضوعية أو "الحياد البحثي"
* objectivity من الشروط اللازمة في الباحث الأكاديمي، وذلك يمثل جانبًا مهمًا في أخلاقيات البحث العلمي بنوعيه النظري والتطبيقي على السواء، وبهذا الحياد تزداد قيمة النتاج العلمي، ويُحتَرَم رأي صاحبه، وبدونه تتحول البحوث إلى خطب عاطفية وحشد من الجمل الإنشائية، أو جدال عقيم ومغالطات سوفسطائية.
ويتحقق الحياد للباحث حين يعالج قضايا العلم بالملكات الإنسانية المشتركة بين الناس في تقديرها ووزنها للأشياء؛ كالعقل والحس، ويستبعد من أدوات القياس العلمي ما هو متفاوت في تقديراته من هذه الملكات، وهو ما تمثله العاطفة والجوانب الذاتية subjective للباحث؛ فالعقل يتكئ في عياره للأشياء والآراء على البرهان العقلي أو الدليل المنتزع من الحس، وهما مما لا يختلف عليه العقلاء من الناس اختلافًا حقيقيًا، في حين يقوم تقدير العاطفة للأمور على الانطباعات والمواقف الشخصية، وهي في هذا الجانب متفاوتة بين الناس كأشدّ ما يكون التفاوت.
ولا يعنى هذا أن نقلل من قيمة العاطفة ووظيفتها في المجالات الأخرى للحياة، فليست الحياة كلها بحثًا علميًا حتى نستبعد منها الجانب العاطفي(
[1])، والمسألة بالنسبة للبحث العلمي خاصة تشبه الشهادة أمام القاضي؛ إن تدخلت فيها العاطفة أفسدتها، وصارت هوى مذمومًا، وأما العاطفة في أمومة الأم وعبادة العابد فهي زينة هذه الحياة، كما أن الذاتية لدى الأديب ومشاعرَ نفسِه هي الروح لأدبه.
ولكن، هل يعني هذا أن الجوانب الذاتية للإنسان لا موضع لها فيما نقوم به من بحوث علمية على الإطلاق؟
قد يبدو النفي المطلق هو أقرب الإجابات على هذا السؤال، لكنْ إن لم يكن للذاتية موضع في تقرير الحقائق العلمية واستخراج النتائج والترجيح بين الآراء وقياس الأدلة واختبارها، فإنها تَرِد فيما سوى ذلك من البحوث العلمية نفسها كحِلْية يتخفف معها الباحث من التزامات الصرامة العلمية، ويعبر عن موقفه النفسي من ظاهرة واقعية ما أو قضية من قضايا الفكر والنظر، وهذا تراه بجلاء حين يكتب العالم التجريبي المؤمن عن العلاقة بين علمه وبين المفاهيم الدينية مثلاً، حيث تسود مشاعر الإجلال للخالق الذي أبدع هذا الكون، وأودع في كل جزء منه آية تدل عليه، وإن كان أصل الكلام يقوم على موضوعات علمية تعتمد في منهجها على الملاحظة والتجربة، أو البرهان النظري لدى العقليين، وهذه السمة نجدها في كتابات عديدة معاصرة؛ مثل: "الله يتجلى في عصر العلم" لجماعة من علماء الغرب التجربيين، ومثل كتابات الدكتور زغلول النجار والشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور عبد الرحمن البار وغيرهم حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية. وقد نراه أيضًا حين يكتب الكاتب عن تاريخ وطنه، فهو لا يجانب الحقائق، ولكن يشرك العاطفة في تصويرها.
أضف إلى هذا أن هناك مسائل لا تخلص أدلتها للعقل والحس وحدهما، وإنما تتجاوز ذلك لتشمل الكينونة الإنسانية كلها، وخلاصة التجربة الاجتماعية للإنسان بعامة، كما في مسائل تقييم النظم الاجتماعية، والمواقف الدولية، وبحث قضايا المصير الإنساني، وبحوث المستقبليات بشكل عام، ففي مثل هذه الأحوال أحسب أن الجمع بين أدلة متنوعة من العقل والحس والنفس والاجتماع في مزيج دقيق أمر ضروري(
[2])؛ تجنبًا لتجريد المسائل المعقدة عند دراستها من جانبها النفسي والعاطفي أو بعدها الواقعي والاجتماعي، حيث تفقد جانبًا كبيرًا من حيويتها التي يسهل اكتشافها سارية خلال سياقها الواقعي المعيش.
أدوات الحياد البحثي:
وحتى لا يبقى تناولنا للحياد البحثي طرحًا إنشائيًا للموضوع، يلزمنا أن نحدد الأدوات التي يستعين بها الباحث للحفاظ على حياده العلمي، ولعل أهمها يتلخص فيما يلي:
1 - الاحتكام إلى أسس ثابتة في معالجة الأفكار ومناقشة الآراء، حيث يبرز سلطان الدليل، ولا يُحكَم للرأي بالصحة أو الخطأ اعتمادًا على شهرته أو غَمْرته، أو باعتبار شخص صاحبه في هذا الباب أو ذاك. وقد شاعت في ثقافتنا تلك الدعوة إلى تركيز النظر في تقدير الآراء وتمحيصها على الرأي ذاته، وألا تمتد العين إلى حال صاحب الرأي في تقدير رأيه، وهو أمر استُمِدَّت أصوله من روح الدين الحنيف التي عبر عنها قول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه: "لا تعرفِ الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"(
[3])، وشاع هذا واستفاض في مصادر الثقافة الإسلامية، وعُبِّر عنه بصور مختلفة، كقول أحدهم: "محبة الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على قبول الباطل، وبغض الرجال للرجال فتنةٌ حاملةٌ على رد الحق، وهذا أمرٌ قد طال منه الضجيج، وفُزِع إلى الله منه بالتضرع"([4])، وحكوا في ذلك أيضًا حكايات كثيرة، منها ما رواه الماوردي في "أدبه" من أنه رأى "رجلا يناظر في مجلسٍ حَفْلٍ، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه! فأمسك عنه المُسْتدِلّ تعجُّبًا... ثم أقبل المستدِلُّ عليَّ – والكلام ما زال للماوردي - وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله...!!"([5]). وقد عرَّفوا الدليل - الذي هو مستند الحياد البحثي الأول - تعريفات متعددة أورد الشوكاني بعضها في الإرشاد في قوله:
- "الدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
- وقيل: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير.
- وقيل: ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.
- وقيل: هو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول"(
[6]).
فالدليل هو ما يُتوَصَّل به إلى مطلوب ما، سواء أكان مطلوبًا نظريًا أو عمليًا، وتنبع طبيعة الدليل من طبيعة العلم الذي تنتمي إليه المطلوبات، فهو في حقول العلوم التجربية تجربي، وفي العلوم الدينية دليل شرعي أو شرعي وعقلي، وفي العلوم الإنسانية مأخوذ من شواهد الواقع الإنساني، إلخ.
2 – ويتصل بما سبق: التركيز في البحث على الرأي نفسه، والترفع عن التجريح الشخصي، حتى لا تتشتت القضية العلمية ويتشعث الرأي فيها، وينتقلَ تركيز القارئ إلى صاحب الرأي دون الرأي ذاته، خاصة أن للنفس الإنسانية فضولاً وتَوَقًا إلى مطالعة مثالب الغير وعوراتهم – إلا من رحم الله - وإن كان قد شاع عند بعض علمائنا – كأبي محمد بن حزم رحمه الله - لذعة في لسانه تجاه الخصوم والمخالفين لا تنفصل عن بيانه لرأيه هو نفسه(
[7]) أو مناقشته لرأي غيره([8])، فإن هذا – على جلالة قدر الرجل - ليس بالسبيل الأقوم في مجال العلم والفكر، كما خالفه فيه جمهور أهل العلم. وإن جاز في العلم إيراد بعض النقد الشخصي أحيانًا على سبيل بيان اجتماع خطأ الرأي وخطل الفعل في بعض الناس، لم يجز الإسراف فيه؛ حتى لا ينبهم المقصود بالعلم جملة.
3 - ومن أدوات الحياد البحثي كذلك: استخدام لغة علمية دقيقة يتجلى معها توصيف القضايا بشكل منصف من النفس وللغير، وتتضح بها جهة الدليل وزاوية النظر، وفي هذا لا تفيد التشبيهات والصور الأدبية شيئًا في التدليل على صحة الرأي أو خطئه، ما لم تكن هي نفسها دليلاً علميًا، ومن أمثلة ذلك: ما ورد عن أبي سليمان المنطقي من تعليق على قول الفيلسوف الأشهر أفلاطون: "من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر" - قال أبو سليمان معلِّقًا عليه: "هذا كلامٌ ضَرُّه أكثر من نفعه، وإنما نفَّقه صاحبه بالمثال، والمثال يستجيب للحق كما يستجيب للباطل، والمعوَّل على ما ثبت بالدليل، لا على ما يُدَّعَى بالتمثيل"(
[9]). وهذا – في الحقيقة - إدراك عميق ودقيق من صاحبنا المنطقي – لله دره - للأساليب التعبيرية المتبعة في الأداء العلمي الرصين.
4 – ويتصل بالبند السابق: ألا يشوش الباحث على رأي لا يميل إليه، وألا يغري باتباع فكرة لا يؤيدها الدليل - باستعمال ألفاظ غير علمية تغري بقبول هذا ورفض ذاك، ففي هذا السلوك البحثي - أولا – إطالة للكلام بلا حاجة، وخروج عن الموضوع الأصلي، وفيه - ثانيًا – باب للتأثير على موقف العقول من الآراء التي تُعرَض عليها؛ لما قد يحدث لها من انخداع برأي لا يحمل الأدلة الكافية على صحته. ولعل الحديث النبوي الشريف الصحيح الذي يقول فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار"(
[10]) – لعله يشير إلى جانب من هذا المعنى؛ إذ إن الخداع اللفظي قد ينفِّق بضاعة صاحبه الفكرية على حساب آراء الآخرين وأفكارهم، وإن كانت الأخيرة أقرب إلى الصواب منها في الحقيقة.
5 – ومن الأدوات المهمة التي يستعين بها الباحث للحفاظ على حياده العلمي أيضًا: التوازن في المساحات المتاحة لعرض الآراء المختلفة وأدلتها في القضية الواحدة، حسب طبيعة الرأي نفسه، وليس باعتبار موافقته لهوى المؤلف أو مخالفته إياه. ولعل هذا من أخفى الطرق التي قد يتبعها الباحث العلمي في الحيف على الآراء التي لا يظهر لها وجه للقبول عنده، أو يقل حماسه وميله النفسي إليها. وقد يفعل الباحث هذا بغير قصد منه، فيتيح للرأي الذي ارتآه مساحة كبيرة يفصِّله فيها، ويبين مداخله ومخارجه، ومؤيِّداته ومعضِّداته، ويرد عنه ما قد يرد عليه من "شبهات"، في حين ينتقص من أطراف الآراء الأخرى، أو يكشف عن جوانب منها ويخفي أخرى عامدًا أو ساهيًا(
[11]). وأسباب هذا التعدي العلمي الأخير قد ترجع إلى تقصير من الباحث في فهم آراء الآخرين بصورة كاملة، واكتفائه بالإلمام بأطراف منها فحسب([12])، أو تشبعه بوجهة نظره هو وظنه أن الحق لا يتعداها. وقد قدم لنا الإمام الغزالي قديمًا نموذجًا طيبًا للفهم والبيان المنصف والوافي للرأي المخالف قبل نقده، وذلك حين تعرّض لفكر أصحاب التعليم من الباطنية، فقال عن منهجه الذي سلكه في هذا: "قرّرت شبهتهم إلى أقصى الإمكان، ثم أظهرت فسادها بغاية البرهان"([13])، وما كان له أن يظهر فساد رأي – كما بدا له من خلال الأدلة – إلا بعد التقرير الدقيق والوافي له.
6 - ومن أدوات الحياد البحثي كذلك: استيعاب جميع الآراء حول القضية التي يختلف فيها الرأي، حين يعرض لها الباحث بالدرس، وذلك حسب حاجة سياق البحث وطاقة الباحث، وليس حسب ميل هذا الأخير أو هواه، وفي هذا يقول ابن كثير في أحد نصوصه الرائعة، وأنقله هنا بطوله: "أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعِب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها، وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ"(
[14]).
وقد أضاف إلينا الشيخ ابن كثير في ختام نصه هذا تنبيهًا إلى أهمية الترجيح بين الآراء، وألا يكتفي المصنف برصد الخلاف وتسجيل وجوهه، وهو ما يناسب أن ننطلق منه إلى النقطة التالية من هذه الدراسة، وهي:
الحياد الإيجابي:
سأستعير هذا المصطلح هنا من مجال السياسة، حيث كان توصيفًا لموقف حركة عدم الانحياز الشهيرة، والتي ادعت منذ عدة عقود من الزمان اختيار وضع سياسي غير منحاز إلى أي من المعسكرين؛ الشيوعي والرأسمالي؛ ذلك أن الجمع بين الحياد والإيجابية في مجال البحث العلمي هو المطلوب بالضبط من الباحث إزاء القضايا التي يتعرض لدراستها طلبَ الفريضة، على ألا تكون إيجابيته قشرة سطحية كتلك التي امتازت بها مواقف الحركة السياسية المذكورة.
وفيما يتعلق بجمع الباحث بين الحياد والإيجاب أشير إلى النقاط التالية:
أولاً: أهمية رأي الباحث:
الباحث ليس مجرد ناقل عن غيره، بل هو شريك كامل في ساحة العمل العلمي والبحث الأكاديمي، ومشاركته في هذا المجال توجب عليه أن يقف موقفًا إيجابيًا تجاه ما يعالج من قضايا وأفكار، حيث إن "الحياد البحثي" الذي يجب أن يتحلى به الباحث لا يعني أن يغيب رأيه الخاص، وإلا افتقرت بحوثه إلى أي قيمة علمية حقيقية.
وهذا المستوى من الإيجابية العلمية يترجم - في الحقيقة - عن جانب مهم من شخصية الباحث؛ حيث تُظهِر إضافاته وترجيحاته بين الآراء بعض ملامح شخصيته العلمية الباحثة، في حين أن ناقل النصوص المسرفَ في نقله لها تختفي شخصيته العلمية وراء النقول الكثيرة التي يتكئ عليها.
نعم، لا ينكر أحد أن اختيار النص المناسب مهارة مهمة للبحث العلمي، لكنْ غالبًا لا يحسن هذا الاختيار إلا من يحسن توظيف النصوص في سياقات مناسبة، ولا يحسن الأمرين معًا إلا من يملك القدرة على مناقشة الآراء وتمحيصها؛ أي أن الاختيار الماهر للنصوص يعبر عن تمكن علمي في شخصية الباحث، ويشير كذلك إلى فحصه الجيد لعناصر الفكرة، وقيامه بعملية نقد وتمييز واعٍ أثناء الاختيار من متعدد واسع الوحدات؛ أعني محتويات المصادر والمراجع التي يستعملها.
ولعل نظرة سريعة إلى بعض المختارات الشعرية في تاريخنا الأدبي تؤكد هذا الرأي، فحماسة أبي تمام والأصمعيات والمفضَّليات تكشف عن فحولة أدبية في جامعيها، حيث انتخبوا من شعر العرب في الجاهلية وصدر الإسلام طائفة من أروع ما جادت به قريحة الشاعر العربي في هذين العصرين.
إنه لا بأس في أن يعتمد الباحث على أولي الخبرة في شأن ما لا يحيط بمعرفته، ولا أن يسوق أدلة غيره في إثبات رأي يراه، على أن ينسب كل ذلك إلى أصحابه بدقة، وفي الآن نفسه لا يمنعه استقرار الرأي حول مسألة ما أن يبدي اجتهاده فيها ما دام قد أجاد فحص المسألة ودراستها، وقدم الأدلة الكافية على جديده الذي أتى به.
وقد قدم لنا أحد أطباء المسلمين العباقرة في القرن السابع الهجري مثالا بديعًا على هذا الأمر في أحد كتبه، وعبر عن جهده هذا قائلا في أولى صفحات مقدمته: "صدّنا عن مباشرة التشريح وازع الشريعة، وما في أخلاقنا من الرحمة؛ فلذلك رأينا أن نعتمد في تعرف صور الأعضاء الباطنة على كلام من تقدمَنا من المباشرين لهذا الأمر... وأما منافع كل واحد من الأعضاء، فإنا نعتمد في تعرفها على ما يقتضيه النظر المحقق، والبحث المستقيم، ولا علينا وافق ذلك رأى من تقدمَنا أو خالفه"(
[15])، فقد جمع بين البناء على جهد الآخرين "المباشرين لهذا الأمر" بعد اختيار دقيق لهم – من ناحية – وبين الإبداع المعرفي المستقل من ناحية أخرى.
ثانيًا: البحث الأكاديمي والإبداع:
قسَّم علماء النفس الإبداع قسمين: أعلى يتمثل في دراسة المشكلات بمناهج جديدة أو بإضافة عناصر إليها لم تُعرَف فيها من قبل، وأدنى يعتمد على استخدام الموجود من المناهج والعناصر للغرض نفسه، ولكن على نحو جديد(
[16]).
والحق أن وظيفة الباحث الأكاديمي لا تقف عند حدود عرض القضايا العلمية، ومناقشة الآراء التي اشتجرت حولها، وترجيح أحدها على غيره بموضوعية وحياد تام، ولا حتى مجرد اقتراح رأي بديل عنها جميعًا إن لم يقتنع بها كلها، بل عليه – إضافة إلى هذا - أن يسعى إلى إنتاج العلم والفكر الخالص كقمة منشودة، وألا تقف همته عند حدود الاجترار وإعادة الهضم والعرض، يقول ابن المقفع: "إذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ، وأن يقولوا قولاً بديعاً، فليعلمِ الواصفونَ المخْبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزَبَرجداً ومَرجاناً، فنَظَمه قلائد وسموطاً وأكاليل"(
[17]).
نعم، لا نستطيع أن ننكر أن النظم والتنضيد الجيد لهذه الأحجار الكريمة عمل جيد، وهو صناعة إيجابية يقوم بها "صاحب فصوص" ابن المقفع، لكن الفن الذي يشتغل به سيظل يراوح في مكانه إن كانت هذه هي كل مهمته، فالإبداع هنا يأتي على هامش العمل وعند مستوى سطحه، وليس في صُلْبه وعمقه، مما يعني أن التجديد – إن كان هناك تجديد – لا يعدو السطح الظاهر. فإن كان المستوى الثاني للإبداع المذكور آنفًا يُحمَد من صاحبه إن أتقنه، فإن الأول هو القمة المنشودة، والتي لا ينبغي للباحث والمفكر أن يقعد عن طلبها، وإن احتاج الأمر إلى جهد واستعداد خاص بالغ الخصوصية والتفرد.
وإذا تجاوزنا مثال ابن المقفع الذي ينتمي إلى حقل الفنون أو الصناعات إلى آخَر ينتسب إلى العلوم، فسيبدو هذا الثبات موتًا أو جمودًا حقيقيًا للعلم؛ إنسانيًا كان أو تجريبيًا أو حتى دينيًا شرعيًا، إلا في حال العلوم المغلقة؛ كتلك المحدِّدة لقواعد اللغات بعد اكتمالها؛ فقد يقال مثلا: إن الكتابة التاريخية عند المسلمين اعتمدت - بعد أن استقرت مناهجها - النقل والرواية من المتأخر عن المتقدم في الجملة، مع إضافات تحقيقية أو تقنية – إن جاز التعبير - لكننا مع مقدمة ابن خلدون أصبحنا أمام شيء جديد يصب في مجرى معرفي أكثر إبداعًا واتساعًا، حيث جاءت المقدمة نتاج نظرة فلسفية شاملة وعميقة إلى مسار المجتمع البشري وحركته امتدادًا وانحسارًا وترددًا بينهما، وجاء فيها ابن خلدون – حقًا – "بما لم تأت به الأوائل"، مما كان بدءًا حقيقيًا لفرع جديد من فروع العلم، ألا وهو "علم الاجتماع"(
[18]) أو علم فلسفة التاريخ.
فالبحث الأكاديمي بكل أنواعه هو في بعض سماته، بل ربما في جوهره لون من ألوان الإبداع، أو على الأقل يمثل الإبداع والتجديد في الأفكار والمناهج قمته المرجوَّة – كما سبق - وهذا الإبداع يمنح الحياة البشرية جزءًا كبيرًا من حيويتها، فإذا أضفنا إليه الإبداع في الفنون والآداب، والإبداع في الإدارة والقيادة، كانت جملة هذه الأمور هي مواضع الإبداع المطلوبة في الحياة البشرية عمومًا لتحقيق التقدم أو النهضة الشاملة.
وما دمنا في سياق الحديث عن الإبداع، فقد يكون مشروعًا أن نطرح هنا هذا السؤال العام: هل يمكن قيام دراسات علمية نخضع فيها أسلوب عموم الأكاديميين والمفكرين – بوصفهم مبدعين من طراز ما - للبحث النفسي؛ توسلاً بها إلى الكشف عن الجوانب النفسية الخاصة بهم، كما حدث ويحدث كثيرًا في دنيا الفن والأدب مع الشعراء والروائيين والرسامين والموسيقيين، وفي دنيا الحرب والسياسة والإدارة مع القادة السياسيين والعسكريين؟
أظن أن هذا ممكن جدًا في العلوم الإنسانية، حتى حين تقوم بتوصيف ظاهرة موضوعية، أما لغة العلم التجريبي والعلوم الاستنباطية – تلك اللغة الصارمة والمكثفة دائمًا والقائمة على الرمز الحسابي والهندسي في أحيان كثيرة – فأحسب أنها لن تتيح لنا هذا الأمر - وتلك برمتها قضية أخرى ليس هذا مجال الخوض فيها تفصيلاً.
ثالثًا: مدى الحياد:
مهما حاول الباحث أن يكون محايدًا في آرائه ومواقفه الفكرية، فإنه لا يخلو من انحياز ينبع من شخصيته وانتماءاته وقيم مجتمعه وتجربته الحياتية(
[19])، وهذا الأمر في ذاته ليس عيبًا، بل هو أمر طبيعي، إلا إذا تجاوز وضعَه الطبيعي فكان له تأثير على توجيه الرأي والحكم عليه بلا دليل كافٍ.
وهذا يعني أن البحث العلمي لا يقوم بعملية تفكيك لشبكة العلاقات المعقدة التي تقوم بين الذات الباحثة وعناصر الوجود المادي والقيمي (الباحث + البيئة)، وإنما يقوّم تحيزاتها، ويكفكف منها حتى لا تتعصب أو تميل إلى الرأي بغير دليل تسترشد به.
ولعل مناقشة القضية في إطار المقارنة مع بعض الأحكام الشرعية للشهادة أمام القضاء يزيدها جلاءً، فالشرع الحكيم يعطي الشهادة بالقسط حكم الوجوب المطلق، بقطع النظر عن شخص من تثبت إدانته بهذه الشهادة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ...} (سورة النساء: 135)، فإذا كانت هذه الشهادة الحقة على الوالد والقريب لا تعني إلا صيانة الحقوق على أصحابها، ولا تقصد من أي وجه أن توهن العلائق الإنسانية بين أبناء المجتمع، فكذلك يُراد من الحياد البحثي أن يوصلنا إلى صحيح الأفكار والقوانين في النفس والناس والطبيعة والشريعة، دون أن يغادر الإنسان ذاته الباحثة إلى ذات أخرى كلية أو جزئية؛ لأن ذاته هذه بامتيازاتها هي التي توصلت إلى الحقيقة الفكرية أو الكونية بذاك المذاق الخاص الذي تصنعه اللغة الخاصة والإمكانات العقلية الخاصة بكل باحث ومفكر، كما أن الانفصال عن الذات بل مجرد الاختلاط أو الجمع الوهمي بين ذاتين لدى الإنسان (الفصام) هو مرض نفسي يحتاج صاحبه إلى مراجعة الطبيب.
والآن أنتقل إلى الجانب التطبيقي من هذه الدراسة، وأمهد له بكلمة عن شخصية الأستاذ الدكتور حسن الشافعي العلمية.
روافد العلمية لديه:
الشيخ العالم الذي سيكون إنتاجه الفكري مجالا للتطبيق في هذا البحث هو في تكوينه الأكاديمي ابن مدرستين شهيرتين في دنيا البحث الأكاديمي على السواء، لكن بمذاق خاص صنعته طبيعة التجربة وطبيعة الشخصية معًا، وهاتان المدرستان هما:
1 - المدرسة الفرنسية: باهتمامها بالتوثيق والتدقيق ورعاية الهامش حتى يطغى على المتن أحيانا، وتمثلت صلة الشيخ بهذه المدرسة في التلمذة على شيخه العالم البحاثة الدكتور محمود قاسم – رحمه الله – وهو الأب الثاني - مع الدكتور علي سامي النشار - للمدرسة الفلسفية الإسلامية الحديثة بعد شيخها وإمامها الأكبر مصطفى عبد الرازق، فالثلاثة تخرج على أيديهم جل فرسان هذا الشأن من العرب المعاصرين.
2 - المدرسة الإنجليزية: في تركيزها على شخصية الباحث وعلميتها المبالغ فيها أحيانًا، وإن كان اتصاله بها قد جاء متأخرًا، وذلك من خلال دراسته للدكتوراه في سبعينيات القرن الماضي بعاصمة الصقيع "لندن" – وسيأتي في آخر هذه الدراسة ملحق خاص بالمقارنة بين المدرستين.
لكن الشخصية العلمية للشيخ استمدت عناصرها الأولى من منابتها الطبيعية المبكرة، حيث بيت الوالد الذي كان يعمل معلمًا، ثم من الحياة الأزهرية بطريقتها التقليدية في التعليم، حيث بعث به والده – "وكان شيخًا أزهريًا من بني هلال - إلى رحاب الأزهر الشريف"(
[20])، فتلقى فيه العلوم الدينية واللغوية سنين عددًا.
ثم جاءه بُعد التحديث في الدرس اللغوي والشرعي – ليتكامل مع هذا الجانب الأزهري التقليدي - من الانتماء إلى المعهد العلمي العريق "دار العلوم" التي أنشأها علي مبارك باشا أولَ العقد الثامن من القرن التاسع عشر، حيث تميزت الدار وما زالت "بالتجديد في التناول والعرض، والربط بين مضامين التراث ومفاهيم العصر، والروح المتسامحة البريئة من التعصب أو الانحياز السابق لمذهب عقائدي معين؛ كالمذهب الأشعري مثلاً أو غيره"(
[21]) – كما يقول الشيخ نفسه.
وتداخل لدى الشيخ تأثير الأزهر ودار العلوم – من جهة الزمان والنوع - بتأثره بشخصية أزهرية ودرعمية مهمة، هي شخصية الشيخ حسن البنا الذي لا يخفي إعجابه البالغ به، ويشير إلى أنه قرأ كتاباته كلها تقريبًا، وقرأ أكثر ما كُتب عنه، ويصفه بأنه "الأستاذ النبيل والداعية الفذ، أنضج ثمرات الفكر الدعوي الإسلامي في مصر، وأحلاها مذاقا وأنضرها رواءً وأقواها أثرا ونماء، وأبرز قادة هذا الفكر في النصف الأول من القرن العشرين"(
[22]).
ولكن يأتي ذكر البحاثة المرموق الدكتور محمود قاسم هنا على أنه الشخصية الأكثر والأعمق مشاركة في توظيف الإمكانات الفطرية والاستعدادات الطبيعية لدى الدكتور الشافعي وتوجيهها نحو إنتاج العلم والفكر والاشتراك في صناعة جيل تالٍ من الباحثين، سعدتُ بأن أكون أحد أفراده.
والشيخ يجل أستاذه هذا إجلالاً يعز مثاله، إلا فيما نطالعه من كتب السالفين حين يعبر العلماء عن فضل شيوخهم عليهم ومشاعرهم نحوهم، فقد كان يدعو له في الصلاة باسمه مع والديه – كما كان يفعل أبو يوسف مع شيخه أبي حنيفة - إلى أن نقل الدعاء لسبب فقهي إلى ما بعد الصلاة، فهو يفتأ يفعل ذلك ولا يتركه إلا ناسيًا، وإذا ذكرتَ قاسمًا أمامه ترحم عليه وقال: "لقد أفادنا كثيرًا".
وحين تقرأ ما كتبه الشيخ عن أستاذه الكبير في بحثه "محمود قاسم والدراسات الكلامية في مصر" لا تفقد في حديثه عنه – على الرغم من العلمية الدقيقة التي يلتزمها – رنة حزن "للرحيل المفاجئ" ومشاعر فياضة يسيل بها القلم نحوه، مع تقدير موضوعي لدوره الكبير في خدمة الدرس الفلسفي والكلامي.
وما أمتع ما تتابعه في هذا البحث نفسه وهو يتكلم عن شيخه وقد أحاطت به كوكبة التلاميذ كل يهتم بفرع من فروع التخصص في الفلسفة الإسلامية، فكأنهم الخوافي والغزالي والكيا الهراسي وابن المؤذن وعبد الرحيم بن القشيري قد عبروا إلينا حاجز الزمان متحلقين حول شيخهم إمام الحرمين الجويني.
ملامح عامة لحياده البحثي:
وقبل أن أسوق أمثلة على الحياد البحثي كما بدا مطبَّقًا في كتابات شيخنا، سأحاول تلمس الملامح العامة لهذا الحياد مرتبطة بالخطوط الكلية المميزة له باعتباره مفكرًا وأكاديميًا؛ حتى يتضح الارتباط الطبيعي بين الأمرين، ولعل أهم هذه الملامح يتمثل فيما يلي:
أ) تُميِّز الشيخَ المتكلم ميولٌ أشعرية مكينة، لكنها أشعرية بريئة من التعصب، جاءته أصولها – كما يتضح للمتابع - من الحياة الأزهرية في بيت الوالد ومراحل التعليم قبل الجامعي في الأزهر الشريف، وتأكدت جذورها برعايته لفكر أحد مفكري المذهب الأشعري الممتازين، وهو سيف الدين الآمدي، في دراسته للماجستير. ثم خالطت ذلك سلفية أبي العباس بن تيمية الذي يعتني الشيخ "بآثاره ومؤلفاته"(
[23]) منذ وقت مبكر من حياته العلمية، حتى إن دراسته حول الآمدي تكاد تسير معها على خطوط موازية دراسةٌ حول آراء ابن تيمية الكلامية، وإن كانت مختصرة لدواعي الموضوع. فقدم لنا الشيخ بهذا الجمع بين آراء المدرستين – مع البصمة الخاصة به بالتأكيد – مزيجًا معتدلاً ميز شخصيته العلمية، واعتمد في ذلك مقاييس محايدة للقبول والرد من الطرفين([24]). وقد سمى الشيخ ذلك المزيج الفكري في مقام آخر بـ "السلفية المعتدلة"، وعرّفه بأنه "مذهب أهل السنة والجماعة أساسا، ولكن مع روح وسطية متفتحة..."([25]).
ب) تجاوز الإحن والخصومات التاريخية، فلا ينبغي أن يتعارك الأحفاد على خلافات لم يشاركوا في صنعها، بل جرت بين الأجداد والأسلاف في ظروف تاريخية مختلفة عن ظروف عصرنا، وبناء على هذا ينظر إلى تاريخ السالفين جملة على أنه مدرسة ينتفع جميع أهل الزمان بدروسها وأفكارها. وهذا – في الحقيقة - إنصاف للنفس، وحياد تجاه أحداث التاريخ، ووقوف أمام الفكر وحده تعديلاً وتجريحًا، فـ "الفكر الإباضي" - مثلا - تراث إسلامي أصيل، وله "دوره (المهم) في تأكيد الشخصية العمانية" – كما عنون الشيخ لأحد بحوثه – وأشار إلى اعتدالهم النسبي في موضع آخر(
[26])، على الرغم مما يُرمَى به هذا الفكر من انحراف عن أهل السنة والجماعة، وانتماءٍ إلى الفكر الخارجي، وسلوك طريق المعتزلة في الآراء الكلامية. ومن الأمثلة الأخرى لتجاوز الخصومات التاريخية لديه: ذلك الالتقاء المشار إليه قبل قليل بين فكر الأشاعرة وفكر ابن تيمية ومدرسته في مزيج واحد متناغم، ودون أي تكلف، مع ما هو معروف من خلاف فكري شهير بين الطرفين بدأ من عصر ابن تيمية نفسه، وقد اشتهرت تلك الفقرة المعبرة عن هذا على قلم تاج الدين السبكي، يقولها في حق مشايخه أنفسهم: "واعلم أن هذه الرفقة - أعني المزي والذهبي والبرزالي وكثيرًا من أتباعهم - أضرّ بهم أبو العباس بن تيمية إضرارا بينا، وحملهم على عظائم الأمور أمرا ليس هينا، وجرّهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم، وأوقفهم في دَكادِكَ من نارٍ المرجوُّ من الله أن يتجاوزها لهم ولأصحابهم"([27])!! بل هناك من الأشاعرة من كفّر ابن تيمية صراحة، فردّ عليهم التيميون بتكفير مجموع الأشاعرة، أو تبديعهم في الأصول على الأقل.
ج) القاموس اللغوي للشيخ تكثر فيه الجمل الاعتراضية الضابطة للرأي والمحدِّدة لمجال الفكرة التي يخوض فيها، كما تتكرر فيه بشكل لافت كلمات مثل: أحسب، ولعل، وفي رأيي، وقد يكون... مما يمثل احترازًا من إطلاق الرأي. كما يعطي مساحة للرأي الآخر يبقى خلالها صالحًا للتداول على أنه إحدى الإجابات المحتملة، وكأن الشيخ يتمثل عبارة الآمدي بعد أن ساق رأيه في إحدى القضايا الكلامية وهو يقول: "هذا ما عندي فيه، وعسى أن يكون عند غيري غيرُه"(
[28]).
د) ويتعلق باللغة أيضًا أن اهتمام الشيخ المَجْمعيّ بها يكاد يكون لذات اللغة، وإن كان ينظر إليها باعتبارها أداة، فهو شيخ بحاثة يبحر وأحد مجدافيه اللغة والآخر الفكر، فلا يكتفي بأن يحقق من اللغة صحتها ودقتها، وإنما يتجاوز ذلك إلى جمالياتها وإشراق ديباجتها، دون أن يحمله هذا على الخروج عن مقتضيات الأسلوب العلمي، مما يعني أنه لا انفكاك عنده بين الفكر وأداته، فإنه إذا ضعفت الأداة الحاملة للفكر فَقَدَ قدرته على البقاء، أو فشل في أداء وظيفته كما ينبغي.
نماذج تطبيقية:
لا يكفي أن يمتدح الباحث الموضوعية والحياد البحثي، أو أن يشير إلى التزامه به إشارة نظرية، دون أن نجد لذلك صدى حقيقيًا في كتاباته. وقد شاع في الرسائل العلمية الجامعية لدينا، خاصة خلال العقد الأخير، أن يشير الباحث إلى التزامه في دراسته بمنهج علمي ما، دون أن يكون لهذه الدعوى العريضة حقيقة واقعية في بحثه. ولعل غياب الموضوعية مع ادعائها في هذه الحال لا يقل خطورة على قيمة البحث العلمي عن غياب المنهجية – التي تمثل الإطار العام للموضوعية نفسها - مع ادعاء الباحث لها، ولعله أيضًا لو اكتفى بتطبيق هذه المبادئ دون إشارة نظرية إلى التزامه بها، لكان أفضل حالا بكثير من ادعاء لحيادٍ علمي لا يقوم عليه برهان.
وقد أشار أستاذنا الدكتور حسن الشافعي إلى التزامه الدقيق بهذا الجانب من الروح العلمية في كتاباته؛ أعني الحياد البحثي، وشفع ذلك – كما ستؤكد النماذج فيما بعد - بالتزام فعلي به فيما صنف من كتب وبحوث.
ومع أن الشيخ لم يخص مبادئ البحث العلمي بدراسة نظرية مستقلة، سوى ما يتعلق بدراسته القصيرة حول تحقيق التراث المخطوط "بعض صعوبات تحقيق المخطوطات العربية"، إلا أن له توجيهات متناثرة في تضاعيف مؤلفاته تتعلق بهذه الناحية، فقال مثلاً في تصديره لأحد كتبه الذي حوى بعض بحوثه ودراساته: "روعي في كتابتها التزام الروح العلمية؛ من تحري الوضوح والدقة، وموضوعية التحليل، والاعتماد على الحجة والدليل، وبذل الجهد في التوثيق وتحرير النقول"(
[29]).
وحتى حين يتخفف من القيود الأكاديمية شيئًا ما، فإنه لا يعفي نفسه من التزام الأصول الثابتة لكل كتابة علمية رصينة، فقال مصدِّرًا مقاله عن الشيخين أبي الأعلى المودودي وحسن البنا: "أكتب عن الملامح المشتركة بين الداعيتين الكبيرين، والسمات المميزة لكل منهما أيضا، على نحو أقرب إلى الانطباع الذاتي التأملي منه إلى البحث العلمي الموثق، وإن لم يخل من نظرة موضوعية ولمحات تحليلية في بعض المواطن"(
[30]). ويشير إلى بعض أوجه التوافق والاختلاف بين الداعيتين المذكورين فيقول: "أذكرها... على نحو موضوعي بحت، بحسب ما تيسر لي - حتى الآن - من الشواهد والملاحظات"([31])، فيتجلى الحرص التام على تقديم الأفكار مشفوعة بما يقوّي قدرتها على الإقناع، ويحدد المسئولية عنها بشكل دقيق، فهي – كما يقدمها صاحبها – اجتهاد منه، وسعي نحو الحقيقة العزيزة التي ينشدها الجميع، ويجب أن يشارك القارئُ المؤلفَ نشدَانها من طرقها التي تبلّغ إليها.
ويحاول الاستناد قدر المستطاع إلى الموضوعية لتحديد الرأي الحقيقي في القضايا التي قد تتعلق بها بعض التهم الخطيرة، مع بحث هذه القضايا الفكرية في إطارها الصحيح؛ حتى لا تضيع الحقائق وسط التشويش والضجيج، فمثلا يرى أن الدعاة إلى هوية بحر متوسطية لمصر بعيدًا عن الإسلام والعروبة كليهما، ليسوا بالضرورة عملاء للدوائر المروِّجة لهذه الفكرة؛ فقد لا يعدو الأمر بالنسبة لهم أن يكون تأثرًا ثقافيًا ما، "وينبغي أن يناقش ذلك على صعيد ثقافي، وفي إطار موضوعي"(
[32]).
والشيخ يرى أن من خوارم الحياد البحثي: أن تسيطر على الباحث عاطفة قوية وميل أكيد نحو موقف ما، فيحجبه هذا عن التمييز بين العناصر المختلفة التي تمثل أجزاء قضية ما خاضعة للدراسة، فيحكم عليها جملة إما بالإيجاب وإما بالسلب، كما هو الحال في الموقفين المتطرفين من التصوف، فالرافضون له تمامًا - في رأيه - "تدفعهم في الغالب دوافع أخرى غير علمية، ربما كانت تجربة شخصية للبعض منهم انتهت به إلى الإحباط وسوء الظن، وربما كانت أسبابًا مذهبية غلبت روح الإنصاف وحسن التقدير..."(
[33])، وأما الذين يقبلون التصوف كله فإن موقفهم هذا – في رأيه أيضًا - "يرجع إلى الإعجاب والميل الذي ربما غطى على روح الإنصاف والموضوعية"([34]).
كما نعى الموضوعية الغائبة عن الكثير من الإنتاج الفكري للمستشرقين، خاصة في المراحل المبكرة للاهتمام الفكري الغربي بالإسلام والمسلمين(
[35])، وأوصى بـ "توثيق الصلة مع المعتدلين منهم لضمان تقديم الصورة الصحيحة للفكر الإسلامي، والإفادة المتبادلة على صعيد علمي جاد وموضوعي، واتقاء الأخطار الناجمة عن اتجاهاتهم غير الموضوعية"([36]).
وفيما يلي سأسوق من الإنتاج الفكري لشيخنا نماذج على التزامه الدقيق بالحياد البحثي والموضوعية العلمية مما يقدم للباحثين مثلا يحتذى في هذا الجانب المهم، ويأتي هذا في النقاط التالية:
1 - تدليله على صواب الرأي.
2 - موقفه من الرأي الخطأ.
3 - ترجيحه بين عدة آراء.
4 - دراسة ظاهرة مركبة.
5 - موقفه من الآخر الفكري والحضاري.
6 – حياد اللغة.
وقد يبدو التداخل ظاهرًا بين بعض الأمثلة التي سأسوقها على هذه المسائل، إلا أن بينها – في الحقيقة - فروقًا تتضح بشيء من النظر الدقيق، وهي ليست فروقًا في طبيعة المثال - الذي يصلح أن يكون واحدًا في أكثر من حالة - وإنما في الجانب المقصود به في كل حالة مما سبق، فإذا كانت القضية المركبة - مثلا - تحتاج إلى ترجيح بين آراء عدة تشتجر حولها في العادة، فإن بعض المسائل البسيطة قد يقع الخلاف حولها، وتتعدد الآراء فيها أيضًا، وتحتاج من الباحث أن يحدد موقفه منها، ففي الحالة الأولى ننظر إلى المثال من جهة كونه قضية مركبة، وفي الحالة الثانية باعتباره قضية تعددت الاجتهادات بشأنها، وهكذا.
أولاً: تدليله على صواب الرأي:
في أحد بحوثه ناقش الشيخ قضية الهوية الفكرية لأبي حامد الغزالي، فقد اختلف الرأي منذ القرن السادس - الذي توفي الغزالي في سنواته الأولى - وإلى زماننا هذا في تحديد موقفه من العقل؛ أهو من أنصاره أم من خصومه؟ كما تعددت الآراء في تحديد الوصف الدقيق له كعالم، بين كونه فقيهًا أو متكلمًا أو صوفيًا أو فيلسوفًا أو مجموع ذلك كله.
وأدلى الشيخ بدلوه في هذه القضية التي تحتاج إلى خبرة بشخصية الغزالي الثرية بكل أبعادها، وخبرة أخرى بإنتاجه الفكري في مختلف أطوار حياته، بل تتجاوز هذه المسألةُ المادةَ المكتوبة إلى الأسرار المكنونة وراء حياة قصيرة بحساب الأرقام، ولكنها عميقة ومتسعة بالنظر إلى أنها لأحد العقول والنفوس النادرة المثال في التاريخ الإنساني عامة. وقدَّم الدكتور الشافعي رأيه في المسألة جازمًا وقاطعًا به من أول البحث – على غير عادته – ثم راح يثبت صحة مدَّعاه البحثي.
أما رأيه في المسألة، فهو "أن الإمام الغزالي مفكر مسلم سني عقلي، يميل أحيانًا إلى مواقف الأشاعرة، ويرتضي لنفسه – وينصح المستعدين – بالمسلك الصوفي"، ثم يؤكد الجانب الأول منه بلغة جازمة؛ لكونه عرضة للاختلاف فيه فيقول: "هو مفكر سني عقلي محض من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، ومن أول حياته إلى آخرها، أقرر ذلك دون تردد، وسوف أثبته"(
[37]).
وأما الأدلة التي ساقها لتأييد غير المتَّفَق عليه من هذا الرأي، فجاءت كما يلي:
1 - أثبت عقلانية الغزالي الممتدة والمتواصلة في مختلف مراحل حياته من خلال إثبات اهتمامه المستمر بالمنطق كمنهج للتفكير، فحين كان الغزالي أستاذًا في النظامية وضع مصنَّفَيه "محك النظر" و"معيار العلم"، إضافة إلى المقدمة المنطقية لـ "تهافت الفلاسفة"، وفي مرحلة "السياحة والرياضة الروحية" ألَّف فيه "القسطاس المستقيم" مع مقدمته المنطقية لـ "المستصفى في أصول الفقه" (إضافة إلى موقفه المتوازن من المنطق في "المنقذ من الضلال")، وفي كل هذه الأحوال كان الغزالي متبنيًا للمنطق منهجًا للتفكير، ومنافحًا عنه ضد خصومه من الحشوية والباطنية خاصة، ومؤكدًا انفصال المنطق عن الفلسفة، وتوافقه مع نصوص القرآن نفسه. بل غالى الغزالي في التوجه نحو العقلانية أول الأمر حين تبنى فكرة الدور الاعتزالية، والتي تكاد تلغي حجية الدليل السمعي في أغلب المسائل الكلامية لصالح الدليل العقلي، إلا أنه عاد في مرحلة تالية إلى شيء من التوازن لا يفصل فيه بين الدليلين مادة ولا صورة.
2 - وأما سنّيته فتأتي من التزامه بالكتاب والسنة ومعاداته للاتجاهات الباطنية (فضائح الباطنية)، وأنه إن تأول فبقواعد وضوابط دعا إلى وضع قانون لها (فيصل التفرقة)، وقد يوافق الأشاعرة أو غيرهم ولكن طبقًا للدليل (قواعد العقائد وفيصل التفرقة)، على الرغم من أنه لم يفلت تمامًا من الانتماء الكلامي إليهم. وإن كان قد ارتضى الطريق الصوفي (المنقذ من الضلال)، فقد حاول أن يقيمه على الكتاب والسنة (إحياء علوم الدين)، مبتعدًا عن الغنوص والهرمسية، "وإن لم يسلم تمامًا من آثارها المتفشية"(
[38]) (مشكاة الأنوار).
فتبدو الشواهد والأدلة هنا مستقاة من مجموع الآثار الفكرية للغزالي نفسه، وهي – بلا شك - أهم المصادر وأقواها في فهم شخصية أبي حامد ومواقفه، مما يعني أن شواهد الباحث يجب أن تكون موثوقة وكافية في الدلالة على موقفه الفكري.
ويمكن أن تلاحظ هنا سمة مهمة في أسلوب الشيخ عامة، وهي مما لا يخلو منه باحث جادّ في الحقيقة، وهي أن أي شخص أو اتجاه أو مذهب يقع اختلاف على تحديد موقفه من مسألة ما أو رأيه في قضية من القضايا، فإن أول ما يرجع إليه لحل الخلاف هي مؤلفاته التي تمثل الوثائق الأهم في تحديد رأيه وموقفه، مع ملاحظة التطور الفكري الذي يطرأ على مسيرة الكثير من المفكرين.
ويعتني الشيخ حين يذهب إلى رأي من الآراء بمتابعة الأدلة المثبتة له وتكثيرها قدر الإمكان، ولا يقنع في الغالب بدليل واحد، إن أتيح له أن يزيد على ذلك، سواء من عنده أم من خلال اجتهاد باحث آخر(
[39]).
وقد يستعين أثناء ذلك برأي من لا يُظَن به أن يجامل في هذا الرأي؛ إمعانًا في دعم موقفه الفكري أمام القارئ، فشمول الإسلام مثلا حقيقة "يشهد بها الدارسون من غير المسلمين من الغربيين والشرقيين على السواء"(
[40]).
ثانيًا: موقفه من الرأي الخطأ:
يركز الشيخ نظره في بحوثه ودراساته حين يناقش أحد الآراء على الرأي نفسه – كعادة بحثية راسخة – ولا يتجاوزه إلى شخص صاحبه، إلا في موضع الثناء أحيانًا، بل قد يثني على المخطئ في جوانب أخرى من شخصيته العلمية أو غيرها - كما سيأتي في كلامه عن البيروني بعد قليل.
ولا ينحسر نقده للآراء وقبوله أو رده لها في فئة من الباحثين دون أخرى، فقد أثنى على صديقه البحاثة السوري محمد صالح الزركان – رحمه الله – ثناء مكرورًا في عدد من كتاباته، ووصفه بـ "أخي وزميلي العالم السوري المتميز"(
[41])، واستعمل دراسته الممتازة "فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية" في كتاباته الكلامية كلها تقريبًا، إلا أن هذا كله لم يمنعه من تخطئة ما بدا له أنه خطأ من آراء صديقه "العالم السوري"، ومن أمثلة ذلك: ما دار حول حصر طرق المتكلمين لإثبات وجود الله تعالى في الست التالية:
- حدوث الذوات.
- إمكان الذوات.
- حدوث الذوات وإمكانها معًا.
- حدوث الصفات.
- إمكان الصفات.
- حدوث الصفات وإمكانها معًا.
حيث ذكر الأستاذ الزركان أن فخر الدين الرازي هو الذي حصرها هذا الحصر، فعثر الشيخ على ما يدل على خلاف ذلك، فقال مصوِّبًا: "كان الظن أن حصرها على هذا النحو من صنيع الرازي (وأرجع في الهامش إلى كتاب الزركان ص 185 – 186)، ثم واصل يقول: ولكن ابن الوزير في كتابه "ترجيح أساليب القرآن" ينسبها إلى أبي الحسين البصري وأصحابه من المعتزلة"(
[42]).
ويعتني الشيخ أيضًا حين يثبت لديه خطأ رأي من الآراء بمتابعة الأدلة النافية له وتكثيرها قدر الإمكان، ولا يقنع في الغالب بدليل واحد – كما هو الحال في المثال السابق - ما دام قد أتيح له المزيد من الأدلة(
[43]).
كما يُلاحَظ أنه يستعين على المخالف أحيانًا برأيه نفسه، أو برأي من لا يُتَّهم بالتحامل عليه. وقد لا يكون هذا دليلا في ذاته، ولكنه – في كل الأحوال - يقوّي جانب الدليل الأصلي، ويزيد القارئَ ثقة في صحة الموقف الفكري للمؤلف، ومن أمثلة ذلك: موقفه من رأي طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة" الذاهب إلى أن مصر بحر متوسطية الهوية، حيث أورد فيما أورد من الأدلة على عدم صحة هذا التوجه أن طه حسين نفسه قال في سنة 1971: "هذا كُتب سنة 1936، ويجب أن أعود إليه وأصلح فيه"(
[44])، مما يعني أنه حالة أو مرحلة فكرية رجع عنها العميد، فلا داعي إذن للدفاع عن هذا الرأي باعتباره جانبًا من أطروحة طه حسين الفكرية، خاصة أنه تبنى في "مرآة الإسلام" موقفًا منحازًا إلى الهوية الإسلامية.
وزاد الشيخ على ذلك أنْ استعان في دعم موقفه من هذه القضية برأي "باحث آخر لا يمكن رميه بالتعصب ضد المؤلف" – كما وصفه – حيث يرى هذا الباحث أن "مستقبل الثقافة" جاء نتاج ظرف تاريخي (معاهدة 1936) استبشر فيه طه حسين خيرًا، دون أن يكون كذلك، مما جعله يقرأ الحدث من باب غير بابه(
[45]).
وفي ردّ الآراء أيضًا لا ترهب الشيخ سطوة الرواية التاريخية، ما دام قد بدا له هشاشتها أو تهافتها، فهو مثلا لا يوافق على رواية أبي الفلاح الحنبلي بأن نصير الدين الطوسي قد وزر للإسماعيلية أو شغل أي منصب رسمي في دولتهم؛ لعدم توافر الدليل على صحة ذلك(
[46])، سواء أكان في مؤلفات الطوسي نفسه، أو في روايات تاريخية في مصادر أخرى تدعم تلك الرواية.
كما غلب على شيخنا الدكتور حسن الشافعي وهو يناقش القضايا التي تختلف حولها الآراء أن يورد أسماء أصحاب هذه الآراء حين يرى - أو يَثبت لديه - أن الصواب قد جانبهم فيها في الهامش فقط، حيث التوثيق الضروري للمواقف الفكرية(
[47])، ويتجنب أحيانًا التصريح باسم شخصية يمكن أن يوجَّه إليها لوم لسبب أو آخر إذا لم تكن ثمة ضرورة علمية لهذا التصريح، فهو يحكي قصة عبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض الشهيرة، والتي قال فيها ابن المبارك أبياته الذائعة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
مَن كان يَخْضب خده بدموعه فصدورنا بدمائنا تتخضب
يورد هذه القصة مورد التمثيل لمشاركة أهل الزهد والورع كعبد الله بن المبارك في الجهاد في سبيل الله وتركهم القعود والتواكل، فيقول: "من أمثال عبد الله بن المبارك الذي بعث بأبياته من الميدان إلى أخٍ له معتكف للعبادة في البيت الحرام يستحثه ويستصرخه للمشاركة في الجهاد: يا عابد الحرمين..."(
[48])، فتراه ستر اسم هذا العابد الجليل؛ لما قد يفهم على أنه قصور في فهمه، أو إيثار للقعود منه، أو ما شاكل ذلك.
لكن الشيخ إن وجد تحاملا من صاحب رأي، اشتد في نقده له اشتدادًا لا يخفيه، غيرَ مفرِّق بين أن يكون صاحب الرأي مستشرقًا غربيًا أو مسلمًا شرقيًا، فحين ناقش أبا الريحان البيروني في قوله بالأصل اليوناني للمصطلح "تصوف" وإرجاعه إلى كلمة "سوفيا"؛ أي الحكمة، ذكر أن البيروني "مؤرخ ومفكر ممتاز، لكنه ذهب بعيدًا في هذا التفكير دون شواهد كافية"، حيث خالف بقوله هذا - كما يستدل الشيخ عليه - أصول الاشتقاق في اللغة العربية، كما أن الصوفية الأوائل لم تكن لهم معرفة بالتراث اليوناني، بل لم تكن الفلسفة نفسها قد بلغت من الرسوخ في البيئة الإسلامية هذا المبلغ.
وعلى الرغم من هذا – كما يواصل الشيخ مناقشاته - جاء المستشرق جوزيف فون هامر ليقول من جديد بالأصل اليوناني لمصطلح "التصوف"، وقد استعان الشيخ في الرد عليه بالأدلة السابقة، إضافة إلى أنه قد "عارضه (في هذا الرأي) كثير من زملائه المستشرقين الذين هم أكثر اشتغالا بالموضوع (منه)"(
[49]).
إلى هنا والأمور تبدو عادية، فالرأي يُجاب عنه بالرأي، والحجة تقابلها الحجة، لكن إصرار بعض الباحثين (المسلمين) بعد هذا على إثبات هذا الأصل اليوناني – على الرغم من كل ما مضى – توسلا إلى أهداف معينة، أغضب الشيخ وأداه إلى القول معلِّقًا: "ومع ذلك فإن بعض الباحثين المعاصرين يميل إلى هذا التفسير لأصل الكلمة؛ لما أنه يشي بالمصدر الأجنبي للتصوف، وهي الفكرة التي يود إثباتها"(
[50]).
ثالثًا: ترجيحه بين عدة آراء:
يجد الباحث نفسه أحيانًا بإزاء قضايا علمية مثارة قد كثر الأخذ والرد بشأنها، وتعددت الآراء حولها، في إطار المهتمين بها على الأقل، فهو إما أن يؤيد أحد هذه الآراء، وإما أن يوفق بينها، أو يأتي برأي آخر يختلف عنها كليًا أو جزئيًا، وربما يكتفي بطرح شكوك حول الآراء والأدلة المطروحة وفتح مسارب أخرى للتفكير في المسألة، وفي كل الأحوال لا يفوت الباحث الجاد أن يسوق على رأيه – مثبتًا أو نافيًا - الشواهد والأدلة التي تثبته وتدعمه.
وقد عرض الشيخ لقضايا من هذا النوع، ومنها ما تناوله بالمناقشة في بحثه حول الانتماء العقائدي لنصير الدين الطوسي، وهل كان إسماعيليًا؟ وإذا لم يكن منتميًا إلى هذا الاتجاه الباطني، فإلى أي فرقة ينتمي إذن؟
وقبل الإجابة عن هذين السؤالين، أشير إلى معرفة الشيخ الوطيدة بهذا الفيلسوف؛ حياته وتراثه الفكري وآرائه الكلامية والفلسفية، فقد درس د. الشافعي الجانب الفلسفي والكلامي عند نصير الدين الطوسي وحقق كتابه "تجريد الاعتقاد" في لندن حين وفد إليها للحصول على درجة الدكتوراه في عقد السبعينيات من القرن الماضي، كما حقق جزءًا من موسوعته المنطقية المهمة "أساس الاقتباس" وما زلنا في انتظار ما تبقى منها، وكتب عنه بحثًا ألقاه في الندوة العلمية لدار العلوم سنة 1990 عنوانه "هل كان الطوسي إسماعيليًا؟"، وهو البحث الذي سيكون موضع الاستشهاد في الإجابة عن السؤالين الأخيرين.
والمشكلة تدور حول حقيقة علاقة الطوسي بالإسماعيلية، وهل كان من أتباع مذهبهم حقًا، ثم تحول إلى الفكر الإثناعشري بعد سقوط قلعة "ألموت" في يد التتار، أو أنه كان حتى وهو في قلاع الإسماعيلية إثناعشريًا؟
يرجح الشيخ الرأي الثاني على غيره، ويقدم لحياة الطوسي صورة منسجمًا بعضها مع بعض، وينفي عنها ما علق بها من أوهام المؤرخين والدارسين المعاصرين، ويردف عناصرها بالأدلة من حين إلى آخر؛ توسلا إلى إثبات هذا الموقف الفكري الذي توصل إليه في تحديد الهوية العقائدية للطوسي:
أ) فنصير الدين ينتمي إلى أسرة إثناعشرية بعض أفرادها من علماء الفرقة – كما يشير الطوسي نفسه وكما يروي المؤرخون عن سيرته، ويؤكده وجود مرويات حديثية عنه في كتب الحديث الإثناعشرية.
ب) وبعد رحلة إلى نيسابور والموصل في طلب العلم عاد الطوسي إلى موطنه الأصلي "طوس" ليجد الفوضى مسيطرة بسبب الغارات التتارية التي لا تهدأ، ففكر في اللجوء إلى القلاع الإسماعيلية باعتبارها مكانًا مناسبًا قد يتوافر فيه الأمان، مع شهرتها بالعناية بالعلم، فانتقل إلى قوهستان، وأيد ذلك الاختيار تلك الرسائل التي ذكر الطوسي في بعض كتبه أنه تبادلها مع أحد أمراء القلاع الإسماعيلية يغريه بالقدوم إليها، فكانت تمهيدًا لانتقاله بأهله إلى هناك، خلافًا للرأي الذي يقول إنه اختطف ونقل إلى هناك.
ج) بعد عشرين سنة من الإقامة في قوهستان استُدعي الطوسي حوالي سنة 644هـ إلى عاصمة الدولة النزارية "ألموت" نفسها، مما قد تكون الوشايات سببًا فيه؛ نظرًا للتسامح المذهبي الذي ميز أمراء قوهستان واعتمادهم على "باحثين أجانب" منهم نصير الدين.
د) شارك الطوسي في إجراءات استسلام القلاع الإسماعيلية للتتار سنة 654هـ، حيث تعرف عليه الخان التتاري هولاكو، وضمه إلى بلاطه.
هـ) كان من الطبيعي أن يؤلف الطوسي أثناء هذه الفترة كتبًا تتناول شيئًا عن المذهب الإسماعيلي على الأقل، إما مجاملة للأمراء والكبراء من أهل هذا المذهب الذين رعوه وقربوه، وإما خوفًا من صولة الفتك الإسماعيلي التي كان يخشاها القاصي والداني من الأمراء والخلفاء، فضلا عن باحث منقطع مثله بلا حول ولا قوة، لكن الطوسي لم يؤلف ولو كتابًا واحدًا "لشرح هذا المذهب أو الدعوة إليه"، وهو ما أكده الشيخ بالفحص الداخلي لمؤلفات الطوسي التي وضعها في هذه المرحلة.
وهنا نجد أن الترجيح بين الآراء – كما هي عادة الشيخ في تحقيق الآراء والمواقف - قد اعتمد على أكثر الوثائق مساعدة على نصرة الرأي المختار، وهي مصنفات الطوسي نفسه وشهادات المؤرخين المعاصرين وغيرهم، مما أدى إلى إعادة الموضوع إلى سياقه الطبيعي، بدلا من إخضاعه لتخمينات لا نضمن أن تصيب الحقيقة، وحتى في حال غياب بعض الحلقات من الحقيقة فإن التوقع يجب أن يكون منسجمًا مع الحلقات المعلومة(
[51]).
رابعًا: دراسة ظاهرة مركبة:
تتمثل مشكلة الظواهر المركبة في تكونها من عناصر متعددة، وربما مختلطة أو متداخلة، وتحتاج دراستها - لأجل ذلك - إلى معالجة علمية دقيقة بأن يستل الباحث عناصرها بعضها من بعض كإجراء ذهني، ويحكم على مجمل الظاهرة من خلال استيعاب تام لتلك العناصر في حالتها المنعزلة بعضها عن بعض وبإضافة بعضها إلى بعض، ولعل هذا هو ما فعله أبو حامد الغزالي مع ما طالعه من علم الفلاسفة حيث يقول عن هذا العلم: "ثم لم أزل أواظب على التفكير فيه بعد فهمه قريبًا من سنة؛ أعاوده وأردده، وأتفقد غوائله وأغواره حتى اطلعت على ما فيه..."(
[52])، وتوصل في النهاية إلى أننا لا ينبغي أن نرفض ما عند الفلاسفة من الحق (الحساب والهندسة والمنطق وأكثر الطبيعيات) لأجل ما وقعوا فيه من الباطل (الإلهيات وبعض الطبيعيات)، ولا أن نوافقهم على باطلهم لأجل ما وُفِّقوا إليه من الحق.
ولكن لا ننس أن الفكر يشبه في بعض الأحيان عناصر الطبيعة التي تكون سامة بمفردها فإذا ركِّبت مع غيرها أضحت نافعة، ومثال ذلك في الممارسات العملية: احترام العُرف، فإنه وحده قد يجر إلى التقليد في أمور ضارة، أما إذا اجتمع إليه التزام الشرع فإنهما معًا يشكلان توازنًا في منظومة التصرفات التي تصدر عن الإنسان، ومثاله في مجال النشاط العلمي: دراسة الفلسفة دون إلمام جيد بعلوم الشريعة، فإنها تؤدي كثيرًا إلى انحرافات فكرية، بل عقائدية، وأما الجمع بين الأمرين فلعله يقدم أفضل نماذج العقل المسلم في هذا العصر.
وتمثل التجربة الإسلامية في حقل التصوف مثالا مهمًا لظاهرة مركبة تعرّض لها شيخنا الدكتور الشافعي بالبحث، فقد حُمِّل التصوف الذي رافق الحياة الإسلامية منذ قرونها الأولى وإلى الآن، حُمِّل في مراحل من تاريخه أوزارًا أدت إلى إساءة ظنِّ الكثيرين به جملة، حتى كادوا يحمّلونه مسئولية تخلف الأمة الإسلامية كلها، وفي مقابل ذلك يأتي الموقف النقيض له، والذي لا يمحِّص ولا يفحص ما يُعرَض عليه، فيقبل التصوف جملة(
[53]).
وفي مقابل هذا وذاك يثني الشيخ على النقد المنصف الذي يميل إلى تنقية الظاهرة مما عَلَق بها من سلبيات، وليس إلى النفي والاستبعاد، أو التعصب الذي يوافق أو يخالف تبعًا للهوى، فيقول عن نقد السراج الطوسي في "اللمع في التصوف" لهذه الظاهرة: "ولعمري إنه لنقد موضوعي منصف مهذب مراعٍ لآداب الخلاف، حريص على هدي السنة والكتاب، دون ميل مع الهوى أو العصبية"(
[54]).
وخلاصة رأي الشيخ في التصوف أنه إن كان نبتة إسلامية سُنّية فإنه "لم يلبث أن تأثر كغيره بالعوامل الفكرية والاجتماعية المختلفة، سواء من داخل الجماعة الإسلامية أو من المؤثرات الخارجية، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى النقد المستمر والتناصح الجاد"(
[55])، أملا في أن يشارك هذا اللون من النشاط – مع ألوان أخرى - في نهضة الأمة الإسلامية؛ ولذا نجده يثني كذلك على موقفٍ واحد للمعاصرين من التصوف، ولا يرضى موقفي الطرفين الآخرين، فيثني على فئة "برغم تعاطفها مع التصوف، وتقديرها لأهله، تتخذ (منه) موقفًا نقديًا، فتعرف وتنكر، وتنصح وتقوّم، وتسدد وتقارب. ولئن اختلفت معايير هؤلاء في ذلك النقد، فلعلهم أقرب الفئات إلى الإنصاف، وأنفعهم لحياتنا الدينية، وأدناهم إلى روح التصوف نفسه"([56]).
فقد اعتمد الشيخ في دراسته للتصوف كظاهرة مركبة منهجًا يقوم على فرز عناصر الظاهرة، وإخضاع هذه العناصر للفحص العلمي، بحيث لا يؤثر عنصر ما في الحكم على آخر، ولا ينفرد عنصر بالحكم على مجمل الظاهرة، ومن الطبيعي أن يأتي الحكم العام مع هذا الفحص التفصيلي أقرب ما يكون إلى الصواب أو هو إياه.
خامسًا: موقفه من الآخر الفكري والحضاري:
التحامل على الخصم – ومثلها مجاملة الصديق – أمر متوقَّع حتى في مجال البحث العلمي، وقد يدخل كلاهما على الباحث من باب خفي، خاصة حين تكثر زلات الأول وحسنات الثاني، ويبلغ الباحث مقامًا ممتازًا إن أفلح في التخلص من تأثير العواطف في الحالين، والتزم جانب الحياد العلمي بدقة وأمانة.
وبناء على هذا، فمن الطبيعي أن نسأل: هل امتاز الشيخ بروح الحياد - التي ظهرت فيما سبق من نماذج - عند تعرضه لمناقشة آراء من قد يمثلون بالنسبة إليه توجهًا حضاريًا أو فكريًا مختلفًا؛ كالمستشرقين من ناحية والمعتزلة من ناحية أخرى؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال سأبين موقف الشيخ من فريقين يمثل كل واحد منهما مستوى من مستويي موقفه الفكري تجاه الآخر كما عرضهما السؤال، وهذا الفريقان هما: المستشرقون، والمعتزلة.
أ) موقفه من المستشرقين:
يسجل شيخنا على الاستشراق أنه قام في مراحل مختلفة من تاريخه، وعلى يد الكثير من رجاله، بأدوار خطيرة ضد الإسلام والمسلمين، منها: تقديم الإسلام للغرب في صورة شائهة؛ خاصة في المراحل الأولى لهذا اللون من الجهد الفكري الغربي، والتعاون الوثيق مع الاستعمار والتنصير، والروح العنصرية التي طبعت أبحاث بعض المستشرقين... إلخ(
[57]).
لكنه – من ناحية أخرى - يقدّر ما يراه حقيقًا بالتقدير من جهود علماء الاستشراق وآرائهم، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
– أثنى على جهود لويس ماسينيون في كتابه "تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية"، وعده من الدراسات الرائدة في هذا المجال، وأن له تأثيرًا فيما تلاه من جهود للاهتمام بالمصطلح الفلسفي لدى المسلمين، وإن كان يعتقد أن هذا الجهد المشكور لا ينفي وجود هنات هينة لا تلغي قيمة "عمله الكبير"(
[58]).
– شارك ببعض بحوثه في "تحية جهود العالم الإسباني الكبير ميجل آسين بلاثيوس في خدمة الثقافة الأندلسية خصوصًا والإسلامية عمومًا"(
[59]).
– أثنى على كل من ريتشارد سيمون وبيير بايل لإنصافهما وتحليهما بالموضوعية في حديثهما عن الإسلام ونبيه – صلى الله عليه وسلم -(
[60])، وغير ذلك.
وهنا نلاحظ أن موقف الشيخ من الاستشراق لم يختلف - من حيث النوع – عن موقفه تجاه التصوف - كما سبق عرضه - إذ إن المقاييس التي أخذ بها في قبول الآراء وردها في الحالين واحدة، على الرغم من أن التصوف ظاهرة ارتبطت بالمجتمع الإسلامي وحضارته، وأن الاستشراق وليد الحضارة الغربية كظاهرة معادية في كثير من جوانبها.
ب) موقفه من المعتزلة:
من المعروف أن ثمة عداوة تقليدية بين الأشاعرة والمعتزلة، وعلى الرغم من اندثار الفرقة الأخيرة، وتسرب أكثر أفكارها إلى الفرق الكلامية الأخرى – ومنهم الأشاعرة أنفسهم – فما زال هذا الخلاف الأشعري مع أفكار المعتزلة قائمًا إلى الآن بصور مختلفة.
والشيخ في موقفه من فرقة المعتزلة يسجل بشكل عام أنها "كانت تيارًا فكريًا شاملا له آثاره على السياسة، كما كانت له آثاره على الأدب، وعلى التفكير الفقهي والعقائدي أيضًا شأن كل تيار فكري أصيل"(
[61])، وهو بهذا يسجل أن هذا الاتجاه الكلامي – بحسناته وسيئاته – هو من نتاج الحضارة الإسلامية وتفاعلاتها مع نفسها ومع الغير، وأن البراءة الكاملة منهم يشبه اختصار شخصية ضخمة كابن سينا في العبارة الشهيرة: "كافر ذكي"! مما يضع حاجزًا بيننا وبين هذه التجارب المهمة يحول دون الإفادة الإيجابية منها، ويحجزنا عن فهم الكثير من قضايا الواقع القائم فهمًا صحيحًا؛ بسبب تغييب ما يشبهها من تاريخنا عن الدرس العلمي الدقيق والموضوعي.
ومع هذا الموقف الإيجابي العام من المعتزلة، يهاجم الشيخ بشدة أفكارًا معينة لهم؛ لما بدا من آثارها السيئة على مسيرة الفكر الإسلامي، كما هو الحال بالنسبة لفكرة الدَّور الخاصة بتحديد حجية الدليل العقلي وحجية الدليل السمعي في الحقل الكلامي – وقد سبق الإشارة إليها قبل قليل – حيث هاجمها في الكثير من كتاباته الكلامية منذ "الآمدي وآراؤه" وما بعده، وقلل من قيمتها، ودلل على شدة تهافتها(
[62]).
ويخطّئهم برفق في مواقف فكرية أخرى يبدو أنه لحظ حسن نيتهم فيها، ففي مسألة أفعال العباد يصفهم بأنهم "بالغوا – بصورة قد لا يشهد لها الواقع – في حرية الإنسان ومدى قدرته وإرادته"(
[63])، وقد يرى أن ما ذهب إليه بعض أهل السنة في بعض القضايا ليس أقل تهافتًا مما ذهب إليه المعتزلة، كما هو الحال في تحديد علاقة الذات الإلهية بصفاته تعالى، وهل ثمة بينهما غيرية أو لا([64])– كما هو معروف ومفصَّل في مظانه.
بل يسعى شيخنا إلى إنصاف المعتزلة في المسائل التي بدا له أنهم قد أسيء فهم موقفهم فيها، ويعبر عن سعادته حين يجد من ينصفهم في مثل هذه الأحوال، ومن أمثلة ذلك نفيه عنهم القول بقدم العالم، ولو على سبيل اللزوم، مستدلا على هذا النفي – كعادته - بنصوص لبعض أعلام المعتزلة، وبتصادم هذا القول مع أصول مذهبهم الثابتة؛ كالقول بالقدم أخصَّ وصف لله - تعالى(
[65]).
ولكن شيخنا يرى أخيرًا أن الأسس الفكرية التي قام عليها هذا الاتجاه غير مناسبة للعصر الحالي، كما لم يقبلها المسلمون في الماضي، "ولو أسست العودة إلى الكتاب والسنة على مبادئ أصولية راسخة لكفكفت من هذه النزعة التي أعرض عنها الفكر الإسلامي في الماضي، ولعلها عاجزة عن إحيائه في الحاضر"(
[66]). ولعل الشيخ أراد بهذه الشدة غير الخافية انتقاد الأفكار المعاصرة التي تتمسح بالعقلانية وتتفلت من الالتزام بالإسلام ومبادئه، ولم يرد بسهمه المعتزلة وحدهم.
سادسًا: حياد اللغة:
اللغة أداة تابعة لعقل صاحبها أو منحازة إليه - من جهة، إلا أنها - من جهة أخرى - مستقلة عنه بوصفها كائنًا اجتماعيًا عامًا يخضع جميع المستخدمين له لمقاييس وقواعد واحدة. وتبدو للغة الواحدة مذاقات عدة؛ ليس في الكتابة الأدبية وحدها، ولكن في شتى ألوان ممارسة اللغة، إذا تجاوزنا العلوم القائمة على الرموز واللغة الاصطلاحية المحددة بشكل صارم لا يدع للذاتية مجالا؛ كما في الرياضيات والكيمياء والفيزياء؛ حيث إن الاختيار من متعدد في الألفاظ والأساليب يتيح – على العكس من الحالة الأخيرة – مساحات متفاوتة تبدو فيها ذاتية المتكلم أو الكاتب.
وقد استخدم الشيخ عدة طرق للأداء اللغوي ساعدت أسلوبه على الوصول إلى الدقة العلمية المنشودة لدى الباحثين، مثل:
- استعمال ألفاظ الاحتمال والتقليل لا ألفاظ القطع والشمول في الكثير من الأحيان (مثل: قد يكون – لعل – أحسب - ربما...)، دون أن يمس هذا ثقة الباحث في رأيه، ولكنه احترام الرأي الآخر، وهو كثير في إنتاج الشيخ(
[67]).
- ومثل ذلك: إيراد الرأي مصدَّرًا بصيغة فعلية مسندة لضمير المتكلم وبلفظ يوحي بأنه اجتهاد من صاحبه (مثل: يبدو لي، كما نعتقد، أزعم...)، وأن هذا هو ما بدا له وجهًا للصواب في هذه القضية أو تلك(
[68]). وهذه - في الحقيقة - هي وظيفة العلم، حيث يبذل العالم أو الباحث جهده في استيعاب القضايا، ويُعمل عقله في فهمها وتقليبها على وجوهها، وإدراك الرباطات القائمة بين أجزاء المعنى الذي يفحصه، والصلة بينه وبين معان أخرى قريبة التعلق به أو بعيدة؛ توسلا بهذا كله إلى اقتراح حل للمشكلة العارضة، ودعمه بما يمكن من الأدلة، وتقديمه على أنه اجتهاد عقل سعى نحو إدراك الحقيقة، وليس أكثر.
- التقييد بالصفة أو الإضافة أو الظرف؛ حتى يشمل الحكم أفراده وحدهم وفي الظرف الزماني والمكاني المحدد، ولا يمتد إلى خارج الفئة المقصودة به، فيقول مثلا عن قلعة "ألموت" الإسماعيلية الشهيرة، وأن نصير الدين الطوسي كان معذورًا في التلون بلونهم المذهبي: إنه كان "يواجه ضغطهم المباشر الثقيل في "ألموت" التي لم يشهد لها التاريخ نظائر كثيرة"(
[69])، فقد أتاح هذا القيد الأخير بالصفة "كثيرة" للمعنى أن يُصاغ خاليًا من المبالغة مركِّزًا النظر على المقصود بالحكم، وأن قلعة الإسماعيلية المشار إليها بلغت حدًا كبيرًا من القدرة على الفتك بالخصوم، حتى قلت نظائرها في هذا طوال التاريخ، مما يقدّم عذرًا للطوسي في التلوُّن بلونهم المذهبي تقية وخداعًا. ويمكن تسجيل الملاحظة نفسها على صفتي "المباشر" و"الثقيل" في النص السابق نفسه.
- توظيف الجمل الاعتراضية، وهو أمر شائع في لغته العلمية قد لا تخلو منه عدة صفحات متتالية من مؤلفاته، ويشارك هذا الأسلوب التعبيري في ضبط التعبير وتدقيقه كما هو شأنه في استعمال الأساليب السابقة.
وبعد، فإن فيما أنتجته قريحة شيخنا الشافعي من فكر – ونرجو الله ألا يحرمنا المزيد منها - أنواعًا من الحياد البحثي أرجو أن أكون قد وفِّقت إلى بيانها بما عرضته آنفًا من أمثلة، وهي: الحياد اللغوي، والحياد في عرض الفكرة، والحياد في الحكم على الفكرة، وقد مثلت في مجموعها مزيجًا متوافقًا تخلل أعماله كلها، وأكسبها متانة السبك وتناسق العرض والقدرة على الإقناع.
والله من وراء القصد، وهو المستعان.

ملحـق
هذا حديث شفوي اقتنصه صديقي الباحث الجاد الأستاذ وصفي عاشور من الشيخ وسط مشاغله الكثيرة، وكان إجابة على سؤال وجهه إليه نيابة عن كاتب هذه السطور حول تأثير المدرسة الأكاديمية الفرنسية فيه من خلال الدكتور محمود قاسم، وتأثره بالأكاديميين الإنجليز أثناء إقامته في لندن في عقد السبعينيات من القرن الماضي، فأحببت أن أثبت إجابته هنا بلفظها، وإن كانت قد اتسعت فتناولت جوانب أخرى أوسع من السؤال، يقول – حفظه الله:
"كانت معرفتي بالمحيط الفرنسي عن طريق الدكتور محمود قاسم، وبعض القراءات الخاصة، أما معرفتي بالجو الإنجليزي فكانت عن طريق المعايشة، فقد أقمت هناك أربع سنوات للدراسة الأكاديمية. وأهم ما يميز المدرستين من خلال خبرتي بهما ما يلي:
أولا: الاهتمام بالفكر الإسلامي والعالم الإسلامي في فرنسا له طابع يختلف عن المحيط الإنجليزي، فالفرنسي موجه إلى الماضي الفلسفي للعالم الإسلامي، وإن لم يهمل الحاضر، أما الإنجليزي فمُنْصبٌّ على الواقع الفكري للعالم الإسلامي المعاصر، وإن لم يهمل الماضي الفلسفي.
ثانيا: الاهتمام في المدرسة الفرنسية بالنواحي الباطنية والشيعية والصوفية، فأثناء احتلالهم للبنان أقاموا في شمالها دولة للعلويين، بالرغم من أن لهم اهتمامًا بابن رشد وعلاقته بتوماس الأكويني، مما يبرز التباسا عندهم في هذا الموقف، في حين أن في المدرسة الإنجليزية نوعا من التوازن في الجوانب الفكرية المختلفة، ولا أدري أسباب هذا الاختلاف في طبيعة الاهتمام.
ثالثا: الاهتمام التقليدي الفقهي في فرنسا بالفقه المالكي، وله سبب تاريخي لارتباطها بالمغرب، ودخل هذا الاهتمام الفرنسي في القانون عندهم، أما إنجلترا فبالفقه الحنفي لعلاقة إنجلترا بالهند.
رابعا: المدرسة الفرنسية لها عناية خاصة بالنصوص حتى وقتنا الحالي، أما الإنجليزية فيهتمون مع النصوص بالدراسات التحليلية، ولهم ترجمة للسان العرب بلغت خمسة عشر مجلدا، وإن تساوت الرعاية بعد ذلك في الاهتمامين لدى المستشرقين.
خامسا: الفرنسيون لا يزالون مهتمين بالأدب القديم، أما البريطانيون فاهتمامهم بالأدب الحديث أكثر، وهو بيّن الأثر في جامعة ليدز وجامعة لندن وما حولها مثل كمبردج وأكسفورد.
سادسا: المدرسة الفرنسية اهتمامهم بالمذهب الكاثوليكي والعصور الوسطى، أما الإنجليزية فبالبروتستانت، واتجاههم للنهضة وما بعد النهضة.
سابعا: وهي نقطة شعرت بوجودها، وتكاد تكون غير أساسية، وهي أن النفوذ اليهودي قوي في المدرسة الفرنسية، ويبرزه موقفهم من الحجاب وتداعياته، وهذا النفوذ موجود في المدرسة الإنجليزية لكن ليس بدرجة المدرسة الفرنسية.
ثامنا: وهي نقطة استظهرتها من خلال دراستي، تقضي بأن المدرسة الفرنسية عندها إثقال في الهوامش والإحالات المرجعية في البحوث والتعليقات التفصيلية جدا، وهو يشمل المدرسة اللاتينية عموما، وهذا يجعلنا ننظر لعلاقة فرنسا بالإسبان والطليان وغيرهم، أما المدرسة الإنجليزية فتقتصد في هذا؛ لأن لها طابعا مختلفا. وبالرغم من دراستي في إنجلترا فقد كان عندي ميل للتفصيلات والهوامش، بالرغم من نصح د. قاسم لي بالتقليل، مع أنه من المدرسة الفرنسية.
ولقد تأثر عملي شخصيا في لندن بتوجهاتي المصرية؛ لأنني ذهبت هناك وأنا ابن ثلاثة وأربعين عاما، فقد كان عندي اتجاهات فكرية وعلمية ثابتة، وكانت أدواتي اللغوية عبارة عن اللغة العربية واللغة الفارسية، وانضم إليهما فيما بعد اللغة الإنجليزية.
واتصلت اتصالا وثيقا بالمشرفين - وهذا لم يتوفر لكثير غيري - مثل د. محمد عبد الحليم، وهو مصري درعمي متخصص في الأدب الحديث، ورسا في النهاية على الفكر الإسلامي، ومشرف آخر إنجليزي، ومشرفة ثالثة كانت رئيسة القسم اسمها مس لامبتون (Ms. Lampton)، وكانت دراستي هناك عن الجانب الفلسفي والكلامي عند نصير الدين الطوسي، وكان لهذه السيدة ـ التي لم تتزوج ولا زالت تحيا إلى الآن ـ اهتمام خاص بالمدرسة الفرنسية.
وقد أثر مجموع هؤلاء الثلاثة في شخصيتي كثيرا، وهم كانوا يعاملونني هناك على أنني شيخ كبير؛ لاحترامهم لكلية دار العلوم كمعهد عريق للعلم والفكر.
وفي السنوات الأربع التي قضيتها هناك لم أكن طالب بعثة، بل ذهبت جامعا للمادة العلمية، سنة واحدة على نفقة الحكومة، وتحملتُ نفقاتي ونفقات البحث ثلاثة أعوام أخرى، وبرغم ذلك وضعف محصولي من اللغة الإنجليزية في هذا الوقت استطعت أن أنهي عملي في أربع سنوات، مع أن غيري من طلاب البعثات قضوا أكثر من الزمن المحدد لهم فقضى بعضهم ست سنوات، وكان وقتهم متوفرا مما أتاح لهم حصيلة لغوية أكثر وتحصيلا أكبر.
ولم أستطع أن أتصل بقوة - وإن كان لي اتصال ما - بالحياة الأدبية والفكرية هناك لضيق وقتي ومحدوديته، لكن لم يمنعني ذلك من أن أتصل بهم ويكون لي اهتمام بالقراءة خارج محيط علم الكلام والفلسفة.
وتمتاز لندن باستقبالها لأناس من أنحاء العالم، وبحكم توجهاتي الشخصية كان لي اتصالات وعلاقات بشخصيات علمية كثيرة، كما عاصرت الاتجاهات الشيعية قبيل الثورة الإيرانية" ا.هـ.
قائمة المصادر والمراجع
· التوحيدي (أبو حيان علي بن العباس):
1 - الإمتاع والمؤانسة، الطبعة الثانية، تحقيق: أحمد أمين وأحمد أحمد الزين، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة 1373هـ/ 1953م.
· ابن حزم (أبو محمد علي بن أحمد):
2 - الإحكام في أصول الأحكام، الطبعة الأولى، نسخة محققة ومقابلة على نسخة الشيخ أحمد شاكر، تقديم: د. إحسان عباس، دار الآفاق الجديدة – بيروت 1400هـ/ 1980م.
3 - التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق: إحسان عباس، الطبعة الأولى، دار مكتبة الحياة - بيروت، ب.ت.
4 - المحلى، طبعة مصححة ومقابلة على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة وعلى نسخة الشيخ أحمد شاكر - دار الفكر – بيروت، ب.ت.
· خفاجي (د. حسن علي):
5 - دراسات في علم الاجتماع، الطبعة الأولى، مؤسسة الطباعة والصحافة والنشر – جدة 1393هـ/ 1973م.
· السبكي (تاج الدين عبد الوهاب):
6 – طبقات الشافعية الكبرى، الطبعة الثانية، دار المعرفة – بيروت – طبعة مصورة عن طبعة المكتبة الحسينية 1324هـ.
· الشافعي (د. حسن):
7 - الآمدي وآراؤه الكلامية، الطبعة الأولى، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 1418هـ/ 1998م.
8 - دراسات إسلامية في اللغة والفكر، 1417هـ/ 1996 (بدون بيانات نشر).
9 - دراسات وبحوث في العقيدة والفقه والعربية، 1416هـ/ 1995م (بدون بيانات نشر).
10 - فصول في التصوف، دار الثقافة للنشر والتوزيع – القاهرة 1991م.
11 - في فكرنا الحديث والمعاصر، دار الثقافة للنشر والتوزيع – القاهرة 1410هـ/ 1990م.
12 - المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي (مقدمة التحقيق)، الطبعة الثانية، مكتبة وهبة – القاهرة 1413هـ/ 1993م.
13 - المدخل إلى دراسة علم الكلام، الطبعة الثانية، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي – باكستان 1422هـ/ 2001م.
· الشوكاني (محمد بن علي بن محمد):
14 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الطبعة الثانية، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي – بيروت 1421هـ/ 2001م.
· عيسى (د. حسن أحمد):
15 - الإبداع في الفن والعلم، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 24، ديسمبر 1979م.
· الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد):
16 - المنقذ من الضلال (مع كيمياء السعادة والقواعد العشرة والأدب في الدين)، تحقيق: محمد محمد جابر، مكتبة الجندي – القاهرة ب. ت.
· ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل القرشي الدمشقي):
17 - تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة - بيروت 1992م - 1412ه‍.
· الماوردي (أبو الحسن علي بن محمد) :
18 - أدب الدنيا والدين، مكتبة مصطفى البابي الحلبي – مصر 1318هـ.
· المسيري (د. عبد الوهاب - تحرير):
19 - إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، سلسلة المنهجية الإسلامية (9)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية، فيرجينيا – الولايات المتحدة الأمريكية 1417هـ/ 1996م.
· ابن المقفع (عبد الله):
20 - الأدب الصغير (ومعه الأدب الكبير)، دار بيروت للطباعة والنشر – بيروت 1400هـ/ 1980م.
· ابن النفيس (أبو الحسن علاء الدين بن أبي الحزم):
21 - شرح تشريح القانون، تحقيق: سلمان قطاية، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1988.

· صحف ومجلات:
22 - صحيفة الحياة اللندنية عدد يوم 12/ 4/ 2006.
23 - مجلة الدراسات الإسلامية (يصدرها مجمع البحوث الإسلامية التابع للجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد) العدد 1 المجلد 39، ذو القعدة 1424 – المحرم 1425هـ/ يناير – مارس 2004م.

* عدلت في عنوان الدراسة عن مصطلح الموضوعية الشهير في مثل هذا اللون من الدراسات إلى "الحياد البحثي" اقترابًا من مصطلح آخر طريف يكثر الشيخ من استعماله في مناقشاته العلمية، وهو "الحس البحثي"، ويعني به قدرة الباحث على استكناه المعاني والوصول إلى الأفكار الدقيقة التي تتيحها النصوص الموظفة أو السياقات البحثية أثناء معالجة الأفكار.
[1] - يقول أحد الكتاب: "لا تقدر الثقافة أن تكون وليدة العقل وحده، إذ تحتاج صرامة العقل و«حياديته» الباردة إلى دفء المخيلة و«جموح» مغامراتها في المجهول واللامرئي، فهناك تتحقق إبداعاتها على غير مثالٍ مسبق أيّ مثال، مهما تكن سطوته وبريق توهجه" صحيفة الحياة اللندنية، مقال: عن ثقافة فلسطين، بقلم: راسم المدهون، تاريخ: 12/ 4/ 2006.
[2] - اعتنى الأستاذ العلامة محمد فريد وجدي – رحمه الله - بالبحث في البراهين النفسية والاجتماعية الدالة على صحة الإسلام وصدق نبيه – صلى الله عليه وسلم – وجعل ذلك محورًا للكثير من كتاباته – كما شاركه بعض هذا الاهتمام الأستاذ وحيد الدين خان في كتابه "الإسلام يتحدى".
[3] - حمل الإمام الغزالي في "المنقذ من الضلال" حملة عنيفة على من يعتبرون الحق حقًا والباطل باطلاً باعتبار الأشخاص الذين يُنسَب إليهم هذا وذاك، ووظف هذه القولة الشهيرة لسيدنا علي في سياق كلامه، انظر: ص 30 وما بعدها.
[4] - أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة 2/ 88 (ونسب المصنف القول إلى معاصره أبي النضر نفيس ولم أجد له ترجمة).
[5] - أدب الدنيا والدين ص 24 - 25.
[6] - الشوكاني: إرشاد الفحول 1/ 22.
[7] - انظر مثلاً: التقريب لحد المنطق ص 3.
[8] - انظر مثلاً: المحلى 2/ 33، والإحكام 7/ 198، 199.
[9] - الإمتاع والمؤانسة 2/ 47 - 48.
[10] - عن أم سلمة – رضي الله عنها - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون..." الحديث، متفق عليه. رواه البخاري في كتاب الحيل وغيره، ومسلم في كتاب الأقضية.
[11] - ولعل من قبيل هذا ما قاله التاج السبكي تعليقا على بعض كلام والده: "أشار به إلى فائدة جليلة يغفل عنها كثيرون ويحترز منها الموفقون، وهى تطويل التراجم وتقصيرها، فرب محتاط لنفسه لا يذكر إلا ما وجده منقولا، ثم يأتى إلى من يبغضه فينقل جميع ما ذكر من مذامه، ويحذف كثيرا مما نقل من ممادحه، ويجيء إلى من يحبه فيعكس الحال فيه، ويظن المسكين أنه لم يأت بذنب لأنه ليس يجب عليه تطويل ترجمة أحد ولا استيفاء ما ذكر من ممادحه، ولا يظن المغتر أن تقصيره لترجمته بهذه النية استزراء به وخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين فى تأدية ما قيل فى حقه من حمد وذم " السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 2/ 23.
[12] - للماوردي بيان ممتاز للأسباب المانعة من فهم المعاني ضمنه كتابه "أدب الدنيا والدين"، حيث يقول: "ليس يخلو السبب المانع من ذلك من ثلاثة أقسام: إما أن يكون لعلة في الكلام المترجِم عنها، وإما أن يكون لعلة في المعنى المستودَع فيها، وإما أن يكون لعلة في السامع المستخرِج"، ثم فصل ذلك في عدة صفحات: انظر ص 17 وما بعدها.
[13] - المنقذ من الضلال ص 35. ويقول في موضع آخر منه: "رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رد في عماية" ص 17.
[14] - تفسير ابن كثير 1/ 5.
[15] - ابن النفيس: شرح تشريح القانون ص 2.
[16] - انظر: د. حسن أحمد عيسى: الإبداع في الفن والعلم ص 17.
[17] - ابن المقفع: الأدب الصغير ص 12 - 13.
[18] - لبيان ريادة ابن خلدون في هذا المجال انظر مثلا: د. حسن علي خفاجي: دراسات في علم الاجتماع ص 39 وما بعدها.
[19] - راجع تفاصيل هذا الموضوع في مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي: إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد: تحرير: د. عبد الوهاب المسيري (جزءان)، سلسلة المنهجية الإسلامية (9).
[20] - كلمة العضوية التي ألقاها الدكتور الشافعي في حفل استقبال الأعضاء الجدد بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1994م، ص 4 (ضمن: دراسات إسلامية في اللغة والفكر).
[21] - د. الشافعي: محمود قاسم والدراسات الكلامية في مصر (ضمن: دراسات وبحوث في العقيدة والفقه والعربية) ص 79.
[22] - بين داعيتين: السيد المودودي والشهيد حسن البنا ملامح مشتركة وسمات مميزة.
[23] - نحو علم للقواعد الاعتقادية الشرعية ص 13 (بحث بمجلة الدراسات الإسلامية العدد 1 المجلد 39).
[24] - انظر: الآمدي وآراؤه الكلامية ص 131 – 141، 283، 348، 443، 477.
[25] - بين داعيتين.
[26] - المدخل ص 55.
[27] - طبقات الشافعية الكبرى 6/ 254.
[28] - الآمدي وآراؤه الكلامية ص 51.
[29] - مقدمة دراسات وبحوث ص 4 - 5.
[30] - بين داعيتين.
[31] - السابق.
[32] - في فكرنا الحديث والمعاصر ص 111.
[33] - فصول في التصوف ص 156.
[34] - السابق ص 157.
[35] - في فكرنا الحديث والمعاصر ص 201.
[36] - السابق ص 210.
[37] - الغزالي... المنهج وبعض التطبيقات ص 3 (ضمن: دراسات إسلامية في اللغة والفكر).
[38] - انظر: السابق نفسه.
[39] - انظر مثلا: ابن رشد الفقيه وكتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد (ضمن: دراسات إسلامية في اللغة والفكر) ص 6 - 7.
[40] - في فكرنا الحديث والمعاصر ص 125.
[41] - الآمدي وآراؤه الكلامية ص 4.
[42] - لمحات من الفكر الكلامي ص 10، وانظر: الآمدي وآراؤه الكلامية ص 30، 78، وفصول في التصوف ص 21.
[43] - انظر مثلا: الآمدي وآراؤه الكلامية ص 38.
[44] - في فكرنا الحديث والمعاصر ص 152. وانظر أمثلة أخرى على هذا في حديثه عن الاستشراق والتبشير: السابق ص 185، 191، 201 – 202، 214، 215. ويشبه هذا أيضًا موقفه الشفهي من كثير من المفكرين المعاصرين الذين حدث لهم تحول فكري ما قليل أو كثير باتجاه الفكرة الإسلامية - مثل: د. زكي نجيب محمود – فلا يرى داعيًا إلى التقليب في صحفهم القديمة، حيث إن التحول شهادة كافية للفكرة المذكورة ضد نقيضاتها.
[45] - انظر: السابق ص 154 – 155، وفصول في التصوف ص 22.
[46] - هل كان الطوسي إسماعيليًا ص 16، وانظر أمثلة أخرى في: الآمدي وآراؤه الكلامية ص 27، 30، 31.
[47] - انظر مثلا: فصول في التصوف ص 157، الآمدي وآراؤه الكلامية ص 402.
[48] - في فكرنا الحديث ص 26، وإن كانت في كل الروايات التي وجدتها للأبيات "فنحورنا" بدل "فصدورنا".
[49] - فصول في التصوف ص 21 - 22.
[50] - السابق ص 22.
[51] - انظر مثالا آخر: ابن رشد الفقيه وكتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
[52] - المنقذ من الضلال ص 17.
[53] - انظر: فصول في التصوف ص 156 - 157.
[54] - السابق ص 212.
[55] - السابق ص 244.
[56] - السابق ص 157.
[57] - في فكرنا الحديث ص 187، 201، 206.
[58] - انظر: مقدمة تحقيق المبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 35 – 36، والمدخل إلى دراسة علم الكلام 241 - 243.
[59] - هو بحث "ابن رشد الفقيه وكتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد".
[60] - في فكرنا الحديث ص 205.
[61] - المدخل ص 93 - 94.
[62] - انظر: الآمدي ص 135 – 137، الغزالي المنهج وبعض التطبيقات ص 3، المدخل ص 140 – 141.
[63] - المدخل ص 92.
[64] - الآمدي وآراؤه ص 222، وانظر مثالا آخر: ص 247 - 248.
[65] - السابق ص 386 - 387.
[66] - في فكرنا الحديث ص 35.
[67] - انظر مثلا: في فكرنا الحديث ص 115، 117، 181، الآمدي وآراؤه ص 206، 402، 408، 431.
[68] - الآمدي وآراؤه ص 206، 339، 401، 409، في فكرنا الحديث ص 84، 123، 139.
[69] - هل كان الطوسي إسماعيليًا؟ ص 21 (ضمن: دراسات إسلامية في اللغة والفكر).