الثلاثاء، 16 ديسمبر 2008

مأساة الأفغان ومسؤولية المنظمات الإسلامية


نبيل الفولي

لا شك أن من يقرأ الحاضر جيدا، ويتصرف وفقا لما يقتضيه، سيكسب المستقبل أيضا، ما دام عمله منهجيا ومتجها إلى النقاط الأساسية في الواقع يسلط عليها مبضع التأثير والتطوير، والتغيير إن لزم.
وقد عاب الشيخ محمد عبده قبل أكثر من 100 عام على المسلمين تواكلهم وسوء فهمهم للقضاء والقدر، وعدّ ذلك من أسباب تخلفهم، وللأسف ما زلنا نحيا مع القدر معادلة خطأ؛ إذ نظن أن الواقع يتغير بضربات حظ لا بعمل جاد، مع أن القرآن الذي يعطي لله تعالى كامل التصرف في كونه لم يمنع الناس من العمل والمبادرة، بل أمرهم بالاحتراز وأخذ الحيطة والسعي إلى القدر، لا انتظار أن يسعى القدر إليهم.
ومن ذلك قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ...}، وقال في الصلاة التي تُؤدَّى في ساحة الحرب: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَة وَاحِدَة...}.

"المنظمات التنصيرية والتثقيفية القادمة من أوروبا وأميركا تؤثر في الواقع الأفغاني كالنار في الهشيم، وتعمل بمنهج وخطة زمنية ومرحلية، وتوفر لأعمالها الغطاء السياسي اللازم والإمكانات المادية والبشرية المطلوبة"صورة من الواقع
الناظر في واقع أكثر الأقطار الإسلامية الآن يجد أن غيرنا قرأ واقعها بصورة أدق من قراءتنا له للأسف الشديد، فرغم الصعوبات الشديدة التي تلقاها العسكرية الغربية في أفغانستان متمثلة في حلف الناتو، فإن المنظمات التنصيرية والتثقيفية القادمة من أوروبا وأميركا تؤثر في الواقع الأفغاني كالنار في الهشيم، وتعمل بمنهج وخطة زمنية ومرحلية، وتوفر لأعمالها الغطاء السياسي اللازم والإمكانات المادية والبشرية المطلوبة.
وأول ما ساعد هذه المؤسسات على القيام بذاك الدور بعد الاحتلال هو مآسي العقود الثلاثة الأخيرة التي عاشها الشعب الأفغاني منذ الاحتلال الروسي للبلاد، وما خلّفه هذا الواقع من مآس يصعب أن تحدد الكلمات أبعادها بدقة.
فعلى سبيل المثال هناك دمار شامل لَحِق قطاع التعليم الأفغاني، لا على مستوى المرافق التعليمية وحدها، بل على مستوى الكادر البشري الذي يلزم للعملية التعليمية أيضا.
ومع أن عشرات الآلاف من الأفغان تلقوا التعليم في هذه العقود حتى المرحلة الجامعية خارج البلاد خاصة في باكستان المجاورة، لا تتعلق نوعية التعليم الذي تلقوه في الغالب بحقل التعليم، بل باللغات والحاسوب والعلوم التطبيقية عادة، إضافة إلى أن كثيرا منهم يفضلون البقاء في الخارج على العودة إلى وطن جريح ومضطرب.
كما أن المقاومة الأفغانية العاملة ضد الاحتلال قد استقطبت قطاعا كبيرا من الشباب المتعلم وفقا لنظام التعليم الديني في المدارس الباكستانية، وكان من المفترض أن يمثل هؤلاء الشباب أساسا مهما لتعليم قطاع كبير من أبناء الشعب الأفغاني، ولو بصورة أولية تحتاج إلى تطوير منهجي يحفظ عناصر الأصالة فيها، ويستبعد العناصر غير الموائمة.
وتبدو مأساة الفقر وسط الشعب الأفغاني أشد من مأساة التعليم، خاصة بعد وفاة كثير من أرباب الأسر الأفغان في الحروب المتتابعة، ودمار مناطق شاسعة من العاصمة والمدن الكبرى، وما تبع ذلك من هرب أصحاب الأموال والأعمال إلى الخارج، بل إن ألوانا معينة من التجارة هاجرت بالكامل إلى البلاد المجاورة وغيرها، وحقق أصحابها فيها تفوقا عالميا.
وباختصار شديد، أصبح الواقع الأفغاني مخربا على نطاق واسع وإلى مستوى عميق، تنعق على أطلاله البوم، وقد شاركت في صنع المشهد الصعب برمته أياد كثيرة بعضها أجنبي وكثير منها من أبناء الوطن، ولم يعد هذا سرا ولا أمرا يُختَلَف عليه، وإنما المشكلة تتركز في هذا السؤال: كيف يمكن إصلاح ما أفسد أبناء الزمان؟

ميراث الحرب على الإرهابأورث الواقع المصنوع بعد حروب الأميركيين في العالم الإسلامي منذ سبتمبر/ أيلول 2001 شعورا بالعجز والخوف لدى المسلمين، والمشكلة أن هذا الشعور لم يعد خاصا بالشخصيات العادية، ولكنه شمل حتى الرسميين.
فالخوف من إلصاق تهمة الإرهاب لم يعد بعد هذه الحروب قصرا على الإسلاميين، بل اتسع حتى شمل الوزراء والمسؤولين الكبار في البلاد الإسلامية، خاصة بعد أن رُفعت بعض القضايا في الولايات المتحدة ضد أمراء عرب لدعمهم أعمالا إغاثية وخيرية خارج بلادهم.

"أكبر كارثة حلت بالمسلمين في هذه المرحلة هي خندق الخوف الذي حشروا فيه، وضرب العمل الخيري الإسلامي العملاق في العالم، ودفعهم إلى مواقف سياسية وتفاوضية لم يكونوا يقبلون بها قبل ذلك"
لقد ظهر أن الحرب على ما سُمِّي الإرهاب لم تكن على محور واحد وهو المحور العسكري، بل اتسعت لتشمل كل المحاور التي استطاع المشروع المحارب أن يشملها.
لم تكن الحرب معركة شريفة يخوضها فرسان يحفظون للجندية أخلاقها ومبادئها وعقيدتها القتالية، ولكنها كانت فرصة استغلوها لهدم كل شيء استطاعت يدهم أن تصل إليه.
لقد استغل كل صاحب غرض الفرصة المواتية منذ الإعلان عن "مشروع بوش" لمحاربة الإرهاب، فالساسة عدوها أجواء مناسبة للتخلص من الأنظمة المناوئة لهم، وإن لم تكن لها صلة بالإرهاب، وجماعات الضغط والمؤسسات الغربية المنتفعة من تشويه صورة العرب والمسلمين حرضت الجماهير العادية ضد كل ما هو عربي وإسلامي، واقعيا كان أم تاريخيا.
واندفعت الجمعيات الدينية والثقافية الغربية تنشر أفكارها في البلاد الإسلامية، وتربي أبناء المسلمين عليها، وأصيب الإعلام الغربي بهستيريا ضد المسلمين عموما، وصار كل شيء مجيَّشا ضد الإسلام والمسلمين.
وكانت أكبر كارثة حلت بالمسلمين في هذه المرحلة هي خندق الخوف الذي حشروا فيه، نعم خسر المسلمون كثيرا باحتلال أفغانستان والعراق، وضرب العمل الخيري الإسلامي العملاق في العالم، ودفعهم إلى مواقف سياسية وتفاوضية لم يكونوا يقبلون بها قبل ذلك، إلا أن حشرهم في خندق الخوف هي النتيجة السوأى على الإطلاق، لأن معناه أن الهزائم ستتكرر ولن تتوقف.

هل يمكن إزالته؟لكن، هل يمكن إزالة هذا الواقع المعوق بل القاتل، أو حتى تحييده بحيث لا يعمل كله ضدنا؟ أعني هل في قدرتنا كأمة كبيرة من حيث العدد على الأقل أن نحيِّد بعض عناصر الواقع المواجه ليعمل في صالحنا؟
إن الكوارث حين تحل بالأمم تترك لها بصيصا من الأمل ومساحة من العفو التاريخي أو القدَري تعمل فيها، ولا يبقى على الأمة إلا أن توظف هذا في الاتجاه الصحيح وبالقدر المناسب.
وأحسب أن حل المعادلة الأفغانية في ظل الاحتلال، ومثلها المعادلة الفلسطينية له زاويتا نظر تتضحان فيما يلي:
أولا: بالنسبة للشعب في داخل الأرض، الشعوب المحصورة لا تقاوم الاحتلال وحده، بل تقاوم الموت معه، وقد فُطرت الحشرات الدقيقة على مقاومة الموت والسحق والهرب منهما.

"المنظمات الإسلامية يمكن أن تتعاون مع الشخصيات الأفغانية المستقلة التي لا تتعامل مع الاحتلال، وفي الوقت نفسه لا تدخل معه في مواجهة حربية، تعاونا عمليا لتقديم المعونات للأسر المنكوبة والعائلات الجائعة"
وهي في ذلك تحتال لنفسها، ولو لم تجد عونا من غيرها، بل تعتمد على قدراتها الذاتية قبل أن تطلب العون من غيرها، ما يعني أن البشر أولى من هذه المخلوقات بصناعة معجزة البقاء تحت السيوف المسلطة على الرقاب، خاصة أن حيل الإنسان لا تنتهي، وقدرته على التأقلم مع الواقع المأزوم كبيرة.
ولعل معرفة الأفغان ببلادهم وجغرافيتها مع شدتهم وعمق تمسكهم بالدين، لعلها هي ما يعينهم على إقلاق الاحتلال وترسانته العسكرية الهائلة باستمرار، ويقدّم الأفغان في هذا نماذج للمقاومة تلفت الأنظار، حتى إنها تدهش جنرالات الحرب الغربيين في كثير من الأحيان.
إلا أن هذا على أهميته لا يعدو أن يكون وجها واحدا من وجوه الملحمة المطلوبة التي تستلزم حفظ هوية الشعب الأفغاني من خلال عمل فردي ومؤسسي مدروس، لصيانة فكر الشعب من التحلل والانحراف الذي يزحف دائما في صحبة العسكرية الغربية.
ثانيا: بالنسبة للأمة التي تمثل امتدادا للشعب في الداخل: ما سبق عن أفغانستان الداخل لا يعفي من المسؤولية تلك الأمة التي تمثل امتدادا جغرافيا وثقافيا عظيما للشعب الأفغاني، ألا وهي الأمة الإسلامية، مهما بلغت الصعوبات ومحاولات عزل القضية الأفغانية وفصلها عن محيطها الإسلامي، ووضعها بدلا من ذلك تحت مظلة دولية أو إقليمية تعطي الهند دورا في الأزمة، وتكتفي من باكستان المسلمة بمقاتلة القاعدة وطالبان على حدودها.
وتأتي المسؤولية في هذا الجانب أول ما تأتي على عاتق المنظمات الإسلامية، سواء كانت سياسية أم ثقافية أم علمية، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الثقافة والعلوم، واتحاد الجامعات الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، وغيرها، فبإمكانها أن تمثل مظلة لتقديم المعونات التعليمية والاجتماعية والمعيشية للشعب الأفغاني، خاصة في المناطق الهادئة التي يمكن أن تمثل محضنا طيبا لمشاريع تعليمية وإغاثية لعوام الأفغان.
وحتى نخرج من هذا التعميم يمكن أن توفر هذه المنظمات آلاف المنح الدراسية للأفغان في جامعات العالم الإسلامي بشكل مدروس ودقيق، بحيث تلبي حاجة الشعب الأفغاني في مستقبله القريب.
كما يمكن أن تتعاون المنظمات الإسلامية المعنية مع الشخصيات الأفغانية المستقلة التي لا تتعامل مع الاحتلال، وفي الوقت نفسه لا تدخل معه في مواجهة حربية، تعاونا عمليا لتقديم المعونات للأسر المنكوبة والعائلات الجائعة.

__________________

الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

تجديد بناء الكعبة




د/ نبيل الفولي
حفظ الله تعالى البيت الحرام، وقامت قريش على عمارته وسقاية الحاج إلى أن جدت ظروف دعت قريشًا إلى تجديد بناء الكعبة.
وقد ذكر علماء السيرة أسبابًا لذلك أهمها:
1-أن سيلاً أتى من فوق الردم الذي بأعلى مكة فأضر بالبيت الحرام، فخافوا أن يدخله الماء.
2-أن امرأة أجمرت الكعبة فطارت شرارة في كسائها فأحرقتها.
3-أن الكعبة كانت غير مسقوفة فأرادوا رفعها وتسقيفها.
ومهما يكن من أمر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك في هذا التجديد، والبناء، وكانت سنه يومذاك خمسة وثلاثين عامًا.
وجاء في صحيح الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حين جددت قريش بناء الكعبة المشرفة كان ينقل الحجارة مع قومه، يحملها على عاتقها وإزاره مشدود عليه، فقال له عمه العباس: يا ابن أخي، لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيًا عليه ثم قال: إزاري إزاري؛ فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة.
وفي ذلك حرص على ستر العورة وطهارة العرض.
وقد اتخذت قريش عدة مواقف تدل على هيبتهم وتعظيهم لذلك البيت العتيق، منها:
أولاً: حرصوا حرصًا شديدًا على أن تظل كافة النفقات بعيدة عن الرجس والسحت، حتى قال قائلهم: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.
وفي رواية لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئًا أصبتموه غصبًا، ولا قطعتم منه رحمًا، ولا أنهكتم فيه ذمة أحد بينكم وبين أحد من الناس.
وينسب هذا التحذير إلى أبى وهب خال عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول الكريم، أو إلى الوليد بن المغيرة.
ثانيا: تروي كتب السير أن الناس هابوا هدم الكعبة وأصابهم خوف شديد، فقال الوليد ابن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها . فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم تُزغ(1).
وفي رواية: اللهم لم نزغ(2)، اللهم، إنا لا نريد إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة ينتظرون ما قد يحل على الوليد من غضب الرب تبارك وتعالى، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فاستبشر الناس، واطمأنوا إلى أن الله رضي صنيعهم فباشروا هدمها.
ثالثُا: أجمعت قبائل قريش كلها على المشاركة في شرف بناء الكعبة، فكانت كل قبيلة تجمع الحجارة على حدة وتبني الجزء المخصص لها، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيمن يحظى بهذا الشرف العظيم حتى تحزبوا وأعدو للقتال.
ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا ثم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، فقال الوليد بن المغيرة: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه.
فكان أول داخل عليهم سيدنا محمد بن عبد الله.
فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا.. هذا محمد.
فقال عليه الصلاة والسلام: هلم إلي ثوبًا، فأتي به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا.. ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه سيدنا محمد بيده الشريفة ثم بُني عليه.
وهكذا حلت كلمة الوفاق محل الشقاق ببركة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكمة عقله.
والملاحظ على عملية البناء هذه أنهم لم يتمكنوا من بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ـ عليه السلام ـ فأخرجوا منها الحجر وهو ستة أذرع أو سبعة.
وجعلوا للكعبة بابًا واحدًا من ناحية الشرق، وحرصوا على أن يكون مرتفعًا ليتمكنوا من السيطرة على الداخلين، فيسمحوا لمن شاءوا ويمنعوا من شاءوا.
وكان لسيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهة نظر أفصح عنها فيما بعد، فقد جاء في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة؟ ولولا حدثان قومك بكفر لنفضت الكعبة وجعلت لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا وأدخلت فيها الحجر.
ويعلق الإمام ابن كثير على هذا الحديث قائلا: "ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء، كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقات بالأرض شرقًا وغربيًا، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو الخليفة يومئذ، فيما صنعه ابن الزبير، اعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه، وأخرجوا منه الحجر، ورصوا حجارته في أرض الكعبة فارتفع باباها وسدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان عليه…
فلما كان في زمن المهدي ـ أو ابنه المنصور ـ استشار مالكًا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير، فقال مالك رحمه الله تعالى: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة…!!
فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك".
هذا ومما يجدر التنبيه إليه أن الكعبة شيء والمسجد الحرام شيء آخر. فالكعبة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أول الأمر وبادئ العهد، وقد يطلق عليه المسجد الحرام باعتبارها مكان السجود وقبلته، أما المسجد الحرام فهو المحيط بالكعبة، وأول من بناه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أجر البيوت من حول الكعبة واشتراها من أهلها وهدمها، وحين تولى الخلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ زاد في المسجد بشراء دور وألحقها به.
ومن يومها إلى الآن والزيادات تطرأ عليه، والتحسين والتشييد قائم على قدم وساق؛ حتى يتسع لجموع المسلمين الوافدين من كل فج عميق والمتزايدين عامًا بعد عام.
بقي تساؤل قد يطرح نفسه وهو:
هل كان للكعبة وجود سابق على زمن إبراهيم الخليل؟
والحق الذي لا مرية فيه أن ظاهر القرآن والسنة يفيد أن إبراهيم عليه السلام هو الموجه إليه الخطاب بشأن هذا البيت العتيق، وهو المكلف برفع قواعده، وتوجيه النداء التاريخي للناس بأداء الحج.
قال تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود(3)"
وقال سبحانه: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق(4)" وحين تحدث القرآن المجيد عن أولية البيت ربطه بذكر إبراهيم فقال: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين(5)"
وجاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
"قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أولا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة".
والمعروف أن المسجد الأقصى هو بناء يعقوب وهو ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم السلام، فيكون يعقوب قد اكتسب صنعة البناء من جده الخليل عليه السلام، واقتفى أثره في تشييد بيوت الله تعالى. وكل ما يذكر الناس حول البيت قبل إبراهيم عليه السلام لم يثبت به نص، ولم تقم به حجة، وهي روايات الله أعلم بها.
(1) لم تفزع الكعبة ونريد الاعتداء عليها.
(2) لم ننحرف عن دينك وتعظيم بيتك.
(3) سورة البقرة: الآية 125
(4) سورة الحج الآيتان (26-27)
(5) سورة آل عمران، الآيتان (96-97)

بينظير بوتو.. هل اغتالتها تصريحاتها النارية؟


ماذا بعد؟
أصبح من المعتاد أن يُنسَب أي حادث سياسي يقع ضد الأميركيين أو الموالين لهم إلى تنظيم القاعدة تلقائيًا وخلال تصريحات تصدرها روبوتات السياسة في أميركا والدول الحليفة لها في الحرب على "الإرهاب".
حتى أننا من الممكن أن نصوغ تعريفًا شكليًا لعضو تنظيم القاعدة –وفقًا لهذا– على أنه كل من يعادي الأميركيين وحلفاءهم، ويحوِّل هذه العداوة إلى ممارسة فعلية، سواء اعترف به بن لادن والظواهري في أشرطة مسجلة أو لم يعترفا!
والذي يقرأ ردود الفعل الرسمية على حادث اغتيال زعيمة حزب الشعب الباكستاني ورئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو والتصريحات الأميركية والباكستانية التي تلته، سيخرج بهذه النتيجة.
فقد سارع رأس الإدارة الأميركية بنفسه –وقبل أي تحقيق- إلى استنكار الحادث واتهام تنظيم القاعدة بلغة لا تعني في النهاية إلا إثبات الجريمة على التنظيم، وهو ما تجاوزه المسؤولون في إسلام آباد إلى ادعاء رصد اتصالات تؤكد هذا الاتهام. وهذه الاتصالات عبارة عن تهنئة يوجهها بيت الله مسعود –الموصوف بأنه متشدد قريب من القاعدة– لأحد الأشخاص باغتيال بوتو!

مناخ الاغتيالوالحق أن رئيسة الوزراء الباكستانية –مهما كانت اليد التي اغتالتها مباشرة– قد ذهبت ضحية الاحتقان السياسي الشديد الذي صنعته سياسة الرئيس برويز مشرف، فقد أدت حدة الأزمة التي دخل فيها النظام وجيشه مع مؤسسات المجتمع من قضاة ومحامين وأحزاب وجماعات ومدارس وقبائل، إلى استنفار قوى المجتمع ضد مشروع مشرف وتوجهاته عمومًا.

وقدمت بوتو نفسها في هذه الظروف الحالكة كبديل، لكن يبدو أن خريجة هارفارد وأكسفورد لم تفهم شعبها هذه المرة كذلك، فاتكأت على مغازلة الأميركيين أكثر من طمأنة التيارات الرئيسية التي دخلت على خط المواجهة مع النظام، ما أدى إلى الحادث المروِّع الذي يثير كثيرًا من القلق على مستقبل هذا البلد ذي الوضع الحساس جدًا.
لقد عادت بوتو من منفاها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن طريق كراتشي العاصمة الفدرالية لإقليمها (السند)، لتدخل المعترك السياسي الملتهب في بلادها معتمدة هذه المرة على شخصيتها أكثر من اعتمادها على تراث أبيها السياسي، على خلاف ما اعتادته من قبل. وكان الأمل الأميركي أن تسهم بوتو في تخفيض التوتر بين الشعب الباكستاني وبين حلفاء واشنطن هناك في حربها على "الإرهاب"، اعتمادًا على التفاوض ثم التحالف مع النظام العسكري.
لكن بدا أن كلا الطرفين (بوتو/مشرف) يريد امتطاء الآخر في مفاوضات شكلية تضمن له الانفراد بالسلطة أو الاستحواذ على النصيب الأكبر فيها، على أن يمثل الطرف الآخر إلى جانبه بعد ذلك جزءًا من الديكور الديمقراطي المصطنع في كلا الحالين.
كان من الطبيعي أن تفشل المفاوضات بهذه الطريقة بين بوتو ومشرف، وتحوّلت رئيسة الوزراء السابقة إلى التركيز على الهجاء السياسي الصريح والجارح للنظام، والذي هدأت منه زيارة جون نيغروبونتي نائب وزيرة الخارجية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الماضي الماضي، ولكن إلى حين قريب.

وأظهرت بوتو نفسَها خلال تصريحات نارية مكرورة على أنها ستكون أفضل من مشرف في مواجهة "الإرهاب"، وطالبته بالاستقالة (مشرف يجب أن يرحل.. لقد انتهى زمن الدكتاتورية)، وهاجمت المدارس الدينية، واتهمت بعضها بأنه يصنع من الأطفال قَتَلة، بل أيدت من قبل الإجراءات العسكرية القاسية ضد طلاب المسجد الأحمر.
لكن ما لم تدركه بوتو وسط المعمعة أن الشعب الباكستاني لا يسكن في لندن ولا نيويورك، ولم يدرس في هارفارد ولا أكسفورد، بل يقطن بلادًا مشبعة بروح القبيلة في إيجابياتها وسلبياتها، وتخرجت نخبة كبيرة منه وفق نظام تعليمي لا يعطي للآخر إلا أضيق مساحة للقبول، ولو كان من أبناء الوطن وشريكًا في العقيدة.
ولعل هذا هو السر في الوهن المزمن الذي يعاني منه الكيان الباكستاني منذ نشأته، وهو السر أيضًا في المواقف المتشنجة ضد الآخر عمومًا، فإذا جاء هذا الآخر ليهدد القلاع التقليدية –التي تحتاج إلى ترشيد وليس إلى اقتلاع– لم تصبح المسألة مجرد دفاع عن موقف أو رؤية فحسب، ولكنها قبل ذلك دفاع عن ذات تتعرض لمحاولات المحو أو التشويه.
إن من الأسئلة التقليدية التي تطرح نفسها بعد حادث مروِّع بحجم اغتيال بوتو هو: من صاحب المصلحة فيه؟

وبعيدًا عن أسلوب الابتسار الذي يأخذ الإجابة من السطح دون الأعماق، يجب أن نميز صاحب مصلحة قد يهمه الخلاص من بينظير بوتو دون أن يراعي العواقب، عن صاحب مصلحة آخر قد يهمه تغييب بوتو ولكنه لا يتحمل العاقبة.
وهذا الأخير ينطبق تمامًا على نظام الجنرال السابق برويز مشرف الذي زاد حادث الاغتيال من اهتزاز الدفة في يده، وفتح الأبواب على مصراعيها نحو مزيد من الاغتيالات والاضطراب الداخلي الذي لا يتمنى أي نظام حاكم أن يدخل نفسه فيه.
وأما صاحب المصلحة في تغييب بوتو بهذا الأسلوب القاسي جدًا دون اهتمام بالعواقب الناجمة عن ذلك، فيتمثل في التنظيمات المسلحة التي استفزتها سياسات النظام، وفي قطاع كبير من المواطنين الحانقين على توجهات الساسة في بلادهم، والتي يرونهم من خلالها مجرد وكلاء عن واشنطن في إدارة البلاد.
ولهذا من حق المتابع للساحة الباكستانية أن يسأل: لماذا نفترض دائمًا وجود تنظيم وراء كل حادث اغتيال سياسي؟ إن حادث الثأر أو القتل العادي في أي مكان لا يختلف بالضرورة عن الاغتيال السياسي إلا في الدافع والشخصية التي تتعرض للاعتداء، وأحسب أن تصريحات بوتو ومواقفها من النظام قد زادت من حدة الإحباط الشعبي -خاصة في الأوساط المتدينة- في بلد بيعُ السلاح في بعض مناطقه أهون من بيع الطعام!!
من الخطأ الفادح إذاً أن ننساق وراء الدعاية فنظن أن كل أعداء أميركا في داخل باكستان هم من أعضاء طالبان وتنظيم القاعدة، إذ إن الموقف السلبي من الأميركان وحلفائهم هو الأصل لدى المواطن الباكستاني، ومن السهل لأي شخص أن يتأكد من هذا بعد حوار قصير مع عينة عشوائية من أبناء البلد.

ماذا بعد؟مهما يكن فإن الواقع الذي فتحنا أعيننا عليه منذ الخميس الماضي (27/12/2007) يقول إن شخص بينظير بوتو قد اختفى من المسرح السياسي الباكستاني كله، فماذا عسى أن تقول قراءة عناصر الواقع الداخلي بدونها؟
أما من الناحية الأمنية، فمن المتوقع ألا تمتد حالة الانفلات الأمني الواسع طويلا، خاصة مع تتابع الأدلة التي تؤكد براءة النظام –المتهم من أنصار بوتو بالتقصير في تأمين تحركاتها الانتخابية فقط– وبراءة الأحزاب المنافسة لحزب الشعب من الضلوع في جريمة الاغتيال من قريب أو بعيد.
كما أن مؤيدي بوتو لا يمثلون قوة يمكنها إثارة القلاقل الأمنية على نطاق واسع، إذ إن القوة الضاربة في حزب الشعب تتمثل في نخبة من المثقفين المدنيين الذين نشؤوا في أحضان التعليم الحديث، إضافة إلى قاعدة جماهيرية كبيرة من أهل السند ساقتها اعتبارات إقليمية أكثر من الانتماءات الفكرية.
لا يعني هذا أن الأعمال الدموية المحدودة وحوادث الاغتيال السياسي في باكستان ستتوقف سريعًا بالضرورة، وهو ما قد يدفع بالنظام إلى تأجيل الانتخابات إلى حين، وربما يلجأ إلى إعادة فرض أحكام الطوارئ بدعوى ضمان السيطرة على الوضع المضطرب.
وأما من الناحية السياسية، فإن الخريطة الانتخابية الباكستانية بعد تغييب بينظير ستزيد من إضعاف موقف الرئيس مشرف وحزبه، وسيكون الجنرال متحسبًا في الغالب لأي إجراء من شأنه استفزاز القوى الشعبية، خاصة التزوير الصريح والواسع للانتخابات، على افتراض أنها ستتم قبل أن يبرد أثر حادث الاغتيال على العاطفة الشعبية للناخب، وعلى افتراض مشاركة المعارضة بشكل واسع في العملية الانتخابية.

وأما حزب الشعب ففقد باغتيال زعيمته أكبر رصيد له في جلب أصوات الجماهير والتسويق لبرنامجه وفكره السياسي، فإما أن يتكئ على جراحه بزعامة نائب رئيسة الحزب مخدوم فهيم أمين فيشارك في العملية الانتخابية بروح التحدي، وإما أن يؤثر السلامة بمقاطعة الانتخابات كلية.
يبقى من قوى المعارضة الكبيرة بعد هذا حزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف، وقد أعلن الأخير انسحاب الحزب من الانتخابات في أعقاب عملية الاغتيال وطالب باستقالة مشرف، إلا أن التوقعات تميل إلى عدوله عن هذا القرار، خاصة مع تزايد الضغوط على النظام بعد حادث الاغتيال.
وبالتالي سيصبح حزب نواز شريف –إن صدقت هذه التوقعات- المرشح صاحب الحظ الأوفر في الانتخابات المرتقبة، سواء دخل وحده أو ضمن تحالف يجمعه مع الإسلاميين وحزب الشعب.
وآخر ما لا يُستبعَد في المشهد الباكستاني أن يضع الجيش نقطة النهاية في أسطر هذه المرحلة المضطربة من تاريخ البلاد بإبعاد مشرف، وإعطاء وعد بإجراء انتخابات حرة يعود فيها الحكم إلى المدنيين، إيذانًا بمرحلة جديدة في المسيرة السياسية للكيان الباكستاني.

ـــــــــــــــ

كاتب مصري مقيم بإسلام آباد

انتخابات باكستان.. ارتياح وصدام محتمل




قال العراف
بقدر ما كان الوضع في باكستان قابلا للتفجر في حال فوز حزب الرئيس مشرف في الانتخابات البرلمانية في 18 فبراير/شباط 2008، جاء الارتياح بإعلان فوز المعارضة بأغلبية المقاعد، إلا أن المستقبل مفعم بالتوقعات. هذا هو ملخص الحدث الانتخابي الباكستاني الأخير وما يمكن أن يتمخض عنه من تطورات، وفي هذا الملخص تنطوي كل سطور الحكاية.
خوفا من الفوضىأدى اغتيال بينظير بوتو في الأيام الأخيرة من العام الماضي إلى هزة عنيفة شككت في قدرة باكستان على الاستمرار ككيان سياسي واحد، فضلا عن بقاء الجنرال السابق برويز مشرف في قيادة البلاد، فقد عمت الفوضى وانتشر العنف غير المنظم في أنحاء البلاد لأيام كانت حالكة السواد بالنسبة لها، وتعالت أصوات في بعض أقاليم باكستان تنادي بالانفصال عن الدولة الأم.
وحتى لو اعتبرنا هذه الأصوات انفعالية، فإن انطلاقها يعني شيئا خطيرا لبلاد لم تظهر على الخريطة العالمية ككيان مستقل إلا منذ ستة عقود من الزمان فحسب، وقد انقسمت بقيامها الهند إلى كيانين عام 1947، ثم عانت باكستان نفسها من انقسام آخر باستقلال بنغلاديش عنها سنة 1970، وهي في غنى تام عن أن تنقسم مثل الديدان الأولية إلى دولتين من وقت إلى آخر.

وقد أدرك النظام الحاكم في إسلام آباد صعوبة الوضع الذي عاشه عقب الاغتيال الخطير للسيدة بوتو، وأدرك كذلك أن هزة أخرى مماثلة قد تودي به تمامًا، وتدخل البلاد في فوضى عارمة، وأكثر ما يمكن أن يدفع إلى هذه الفوضى هو أن يُقال للشعب الباكستاني بعد هذا كله إن أنصار الرئيس مشرف قد نالوا ثقة الأمة، وفازوا بالانتخابات النيابية، ولو كان هذا القول صحيحا!
عرف النظام جيدا أنه لم يبق له رصيد من المؤيدين في الداخل، إلا هذا الحزب الشاحب الذي شقه من حزب الرابطة الإسلامية، وحزب المهاجرين القومي (MQM). والسبب في فقدان النظام للنصير الحقيقي والمؤثر في الداخل هو سياساته الأمنية والاقتصادية والخارجية التي صدَّعت علاقات الرئيس مشرف بكل طوائف الشعب ومكوِّناته تقريبًا، بل أسخطتها عليه بعمق واتساع ليس من اليسير علاجه.
ويأتي على رأس هذه السياسات تلك المواجهات الداخلية المستمرة التي يخوضها الجيش في أنحاء باكستان من وقت إلى آخر، والأحوال المعيشية المتردية لعشرات الملايين من أبناء الشعب الباكستاني، وكذلك انتهاك حرمة القضاء بشكل سافر، ومغازلة إسرائيل في مناسبات موسمية تحت زعم أننا "لا ينبغي أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين" كما قال الرئيس مشرف نفسه.
من هنا تجاوز نظام مشرف المناورة على الانتخابات، وربما لم يفكر، في المراحل الأخيرة على الأقل، مجرد تفكير في الإقدام على تزويرها كما فعل في مرات سابقة؛ للأسباب المذكورة آنفًا.
ولكنه لم يلغ المناورة تمامًا، بل نقلها إلى محطات أكثر تقدمًا في مسار الحدث السياسي الباكستاني، فلا تزال أمام الرئيس مشرف –بعد أن وضعت الانتخابات أوزارها- مساحة للمناورة وإبرام الصفقات مع جهات وأحزاب لديها الاستعداد لهذا.
ومن اليسير أن نعثر على بعض الأوراق الخطيرة التي تتيح أمام الرئيس الباكستاني مساحة المناورة هذه، ويتمثل أهمها في وجود سلطة فعلية في يده مدعومة ببعض مواد الدستور التي أعطته صلاحيات واسعة، وغياب الزعامات التاريخية عن أقوى حزب منافس، وأخيرًا يأتي الدعم الأميركي لمشرف باعتباره خيارًا مهمًا لها؛ خاصة أن الأميركيين صرحوا عقب ظهور نتائج الانتخابات عن أملهم في أن تعمل الحكومة الجديدة مع مشرف.
وفي مقابل هذا تأتي عوامل أخرى أقوى لا تصب في مصلحة الرئيس؛ أهمها أن سلطاته الفعلية قد تقلصت كثيرًا عقب تنازله مضطرًا عن قيادة الجيش، وكذلك تلك الثقة الكبيرة التي حصلت عليها المعارضة عبر صناديق الاقتراع؛ حتى انتقل كثير من أوراق اللعبة إلى يدها، وهو ما عبر عنه نواز شريف حين قال "يجب أن يفهم (مشرف) أنه فقد السيطرة على الأمور، ولم يعد سيد اللعبة".

صِدام في قمة السلطةوالحق أن الحالة السياسية الباكستانية بعد فوز المعارضة الكاسح بالانتخابات -على الرغم من تشابكها وكثرة تقاطعاتها- صارت تقف أمام عدد محدود من الاحتمالات فيما يتعلق بتشكيل الوزارة وطبيعة النظام القادم، إلا أن المشكلة تتمثل في التطورات التي قد تنشأ عن هذا التحالف أو ذاك، وطبيعة العلاقات التي ستنشأ بين الحلفاء أنفسهم، والعلاقات الأخرى التي ستربط هؤلاء الحلفاء بالمعارضة.
وأول هذه الاحتمالات وربما أقواها إلى الآن، هو أن يقدم حزب الشعب على إبرام صفقة مع الرئيس مشرف بتكوين حكومة ائتلافية مع حزب المهاجرين القومي الموالي للرئيس، أو مع حزب الرابطة الإسلامية جناح قائد أعظم.

ولا يخفى أن هذه الصفقة إن تمت فستكون براغماتية بامتياز، وستأتي في الأساس على خلاف ما يتمنى الناخب الباكستاني الذي كان يحلم وهو يصوت للمعارضة بعهد جديد تحت قيادة أخرى تنأى بالبلاد عن الهزات الصعبة التي تعرضت لها خلال العقد الأخير، وتكون أكثر قدرة على الموازنة بين الاستجابة للضغوط الخارجية ورعاية المصالح الباكستانية، كما هو ديدن السياسة الباكستانية طوال عقود مضت.
وتدرك زعامة حزب الشعب جيدًا موقف القوة الذي منحتها إياه نتائج الانتخابات الأخيرة، كما تدرك أن موقف الرئيس لم يعد بالقوة التي كان عليها؛ ولذلك فإنها لن تخضع بسهولة لضغوط مشرف الذي لن يكون التدخل الأميركي حاسمًا بالنسبة له، وهو ما أثبته لقاء السفارة الأميركية الذي تم بين أحد وزراء الحكومة المؤقتة وبين آصف علي زرداري زوج بينظير بوتو للتفاوض حول حكومة مشتركة.
لقد حرصت الولايات المتحدة على إبرام تحالف بين حزب الشعب والرئيس مشرف في حياة بينظر بوتو، ولم تزل حريصة على هذا بعد رحيلها؛ إذ أن واشنطن لا تقبل أن يتناحر حلفاؤها من جديد على حساب مصالحها، لكن هذا لا يعني أن الأميركيين يتمسكون بمشرف باعتباره الخيار الوحيد لهم.
إذا تم هذا التحالف فسيعني أن يبقى مشرف في موقع الرئاسة، ويتولى أحد وجوه حزب الشعب تشكيل الوزارة؛ مثل زرداري وكيل الحزب، أو تشودري إعزاز أحمد رئيس جمعية المحامين في إسلام آباد، أو مخدوم فهيم أمين نائب رئيس الحزب.
ويطمع مشرف من خلال هذا التحالف في أن يستبدل بالجزء الموالي له من حزب الرابطة تشكيلة سياسية أخرى، قد لا تقوم بالدور نفسه تمامًا، لكنها ستترك الرئيس آمنا في منصبه، وقد يرضى مشرف في هذا الصدد بشراكة سياسية تزيد في إضعاف سلطاته، لكنها ستبقي عليه في كرسي الرئاسة.
أما التداعيات التي يمكن أن تصاحب هذا التشكيل المحتمل للقيادة السياسية في باكستان، فإن تحقيق الانسجام بين الحزب وبين مشرف؛ خاصة إذا كثرت تطلعات الأخير، ليس متوقعًا لفترة طويلة في ظل وجود صقور في حزب الشعب ترى أنه لا حل إلا بإقالة الرئيس، كما هو موقف رئيس جمعية المحامين الذي لم تُرفَع عنه الإقامة الجبرية بسبب معارضته لإجراءات الحكومة ضد القضاة وجموع المحامين إلا مؤخرًا.
وسيُدفع بنواز شريف في حال إبرام هذا الاتفاق إلى صفوف المعارضة. وقد يكون من مصلحة شريف في هذه المرحلة أن يمثل المعارضة العاقلة الحريصة على باكستان، نأيًا بحزبه عن ضغوط الرئيس الأميركي جورج بوش للتحالف المطلق معه ضد ما يسميه "الإرهاب"، خاصة أنه يُتوقَّع مع رحيل الرئيس بوش عن البيت الأبيض أوائل 2009 أن يتغير كثير من ملامح الإستراتيجية الأميركية في مواجهة شبح الإرهاب.
ويرى بعض المتابعين أن من تحقق له الفوز الانتخابي في المرحلة الحالية من التاريخ السياسي الباكستاني، فإن الضغوط الأميركية ستفقده هذه الميزة، وأن موقف بعض الإسلاميين بالمقاطعة كان هو الأحكم.
لكن لا ننسى أن هؤلاء لم يقاطعوا الانتخابات إلا لأجل إضعاف شرعيتها وشرعية الرئيس مشرف معها، وليس هربًا من الضغوط الأميركية.


وأما الاحتمال الثاني للوضع السياسي في باكستان ما بعد الانتخابات، فهو أن تختار زعامة حزب الشعب التحالف مع نواز شريف والجناح التابع له في حزب الرابطة الإسلامية، فتؤول رئاسة الوزارة إلى حزب الشعب، وبالذات إلى رئيس جمعية المحامين تشودري إعزاز أحمد الذي يقع محل اتفاق من الحزبين، وتؤول رئاسة البرلمان إلى الرابطة الإسلامية في اقتسام متوازن للسلطة والحقائب الوزارية.
ولا شك في أن هذا الاحتمال يمثل خطرًا ساحقًا على الرئيس مشرف الذي توعده نواز شريف عقب ظهور بوادر انتصار المعارضة في الانتخابات بإعادة القضاة المعزولين، وعرْض شرعية وجوده في قمة السلطة على خصومه من القضاة الذين حكموا ضده وهو في عنفوان قوته.
من جهة أخرى سيزيد هذا التحالف المتوقع من ضعف حزب الرابطة جناح قائد أعظم لحساب جناح نواز شريف، فإما أن تكثر فيه الانشقاقات، أو يعود جناحا الحزب إلى الالتئام من جديد.
ولكن أين الجيش -المؤسسة الأقوى والأكبر في البلاد- في وسط هذه الأحداث؟
استضافت قناة نيو بلس (News Plus) التلفزيوينة الباكستانية عرافا ومحللا سياسيًا قبيل الانتخابات لمعرفة قراءتهما لما قد تسفر عنه الانتخابات، فأشار العراف إلى أن الرئيس مشرف سيبقى في السلطة وسط صعوبات جمة، إلى أن يتدخل الجيش ويفرض الأحكام العرفية في محاولة لترتيب الأوضاع الداخلية للبلاد.
والحق أننا لسنا في حاجة إلى العراف لنقول إن الفراغ السياسي وتفاقم الأزمة حول السلطة في البلاد قد يقود بالفعل إلى هذا الوضع؛ غير أن هذا قد يعني أيضًا الإطاحة بكل اللاعبين السياسيين في المشهد الباكستاني، والعودة إلى الوراء عقدًا آخر من الزمان.

ــــــــــ

في إشكالية التقريب بين المذاهب




-هل هدم القرضاوي المعبد فوق رؤوسنا؟
مع بزوغ فجر العصر الحديث في العالم الإسلامي تجاورت النقائض في كثير من جوانب حياته، فتقابل الواقع الحضاري الصعب مع الماضي العريق والسعي إلى الوحدة مع طغيان الحس القومي التفتيتي، وتقابلت عوامل الإعاقة الكبيرة مع آمال النهوض العريضة، وتجاور فعل الماضي مع فعل الواقع، وفعل النفس مع الانفعال بالغير.
وقد حاول كثير من المفكرين والسياسيين والاجتماعيين المسلمين المحْدَثين والمعاصرين تقديم حلول تتجاوز الأزمة الخطيرة، وبرزت في هذا الجانب عشرات الأسماء الكبيرة وعشرات الحركات التصحيحية أو الاستئنافية، إلا أن أكثر ما أضر المشروعات المطروحة في هذا الصدد هو أن مستوى الفعل العملي الذي قدمته كان في الغالب أضعف من مستوى الانفعال، أعني أن حركة الواقع والتاريخ كانت أقوى من مستوى الطرح العملي الذي قُدِّم في هذه المشروعات.
وإذا كان هذا الكلام مجملا، وقد يبدو ظالما في أعين بعض القراء، فلنتحاكم إلى الواقع والأمثلة. فأما الواقع فيشهد أننا ما زلنا نعالج مشكلات أولية طرحها الرواد الأوائل للإصلاح الإسلامي، أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مثل: مشكلات التعليم والمرأة وصورة الدولة الإسلامية الحديثة وعلاقتنا بالحداثة الغربية.. إلخ.
وأما الأمثلة، فأختار منها هنا فكرة التقريب المعاصرة بين المذاهب الإسلامية، والتي نشأت منذ حوالي سبعين سنة، لكنها ما زالت منذ ذلك الحين تراوح مكانها، ولا تتقدم خطوة إلا أصابتها انتكاسة أخرتها مائة خطوة، وذلك –في رأيي- بسبب الأساس والهيكلة غير الصحيح للفكرة.

فكرة غير محددةتركزت حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية على عقد مصالحة بين السنة والشيعة الاثناعشرية خاصة، ولم تتجاوز هذين الطرفين تجاوزا يستحق الذكر، وكان الأجدر بها أن تُسمَّى حركة التقريب بين الشيعة الاثناعشرية والسنة الأشعرية، لأنها لم تشمل لا كل الشيعة ولا كل السنة، إذ إن التيار الزيدي لم يحتج إلى مثل هذا التقريب لأنه لا يعتقد سب الصحابة مذهبا، وإن خالف أهل السنة في المفاضلة بينهم ضمن مسألة تاريخية نظرية لا تقدم كثيرا ولا تؤخر.
كذلك ليست هناك مشاركة سنية سلفية يعتد بها في حركة التقريب، إذ الغالب على التيار السلفي هو الشك في جدوى هذه الفكرة أصلا في تنافر معروف بين الطرفين (يراجع كلام محب الدين الخطيب حول مؤتمر النجف).

بل إن سنة شبه القارة الهندوباكستانية –الذين يشكلون أكبر كتلة سكانية إسلامية في العالم- بعيدون كل البعد عن فكرة التقارب مع التيار الشيعي بكل أطيافه ضمن حالة تاريخية أخرى من التنافر بين الاتجاهات الإسلامية.
من حق أي ناقد لفكرة التقريب بين المذاهب إذن أن يتهمها بأنها تلبس لباسا فضفاضا أكبر من حجمها الحقيقي، ومن حقه كذلك أن ينتقد الحركة –إن استمسكت بعنوانها العريض- إهمالها ألوانا أخرى من التقريب البيني الإسلامي، فهناك إباضية وصوفية وحداثيون يحتاجون إلى هذا التقارب معهم ضمن حوار علمي حقيقي.
كذلك من حق أي ناظر في فكرة التقريب القائمة أن يتهمها بعدم الوضوح الاصطلاحي؛ إذ إن لفظ "التقريب" يحمل معنى هلاميا ليس من اليسير ضبطه، ونستطيع أن نفهم منه أحد معنيين، إما أن يغض كل فريق الطرف عن عيوب الآخر ويقبله كما هو لأجل الاقتراب منه، وإما أن يتنازل كلاهما لصاحبه عن بعض مستمسكاته القديمة لصالح التقارب يينهما. أما المعنى الأول فلا يتجاوز الحلف السياسي الذي يقع حتى مع غير المسلمين، وأما المعنى الثاني فلا نرى له واقعا يصدقه.

حركة فكرية أم اجتماعية؟ركز النقد السابق على الفروع التي اتصلت بفكرة التقريب، إلا أن هناك إشكالية بنائية في هيكل الفكرة أضرتها كثيرا، وذلك أننا اعتبرناها فعلا اجتماعيا أو سياسيا، في حين أنها في الأصل فعل فكري، فالاختلاف القائم بين طرفي التقريب ليس اختلافا عائليا ولا حول ملكية هذه الأرض أو تلك، وإنما هو اختلاف فكري يتجه فيه كل طرف في فهم بعض المسائل اتجاها غير الآخر، وهذا يدخل ضمن القضايا الفكرية وليس الاجتماعية أو السياسية.
لكن ما الضرر الذي نتج عن تغليب الصبغة الاجتماعية في حركة التقريب على الصبغة الفكرية؟ أخطر النتائج هي عدم استقرار الحركة، وصعودها وهبوطها وفقا لما يحيط بها، وليس وفقا لعوامل ذاتية فيها، كأن يكون التقريب نفسه مستحيلا أو ممكنا بوسائل أخرى.
ومن هنا أثرت عوامل سياسية وشخصية في مسار عملية التقريب، حتى ضاعت الحقائق وسط المجاملات والتقديرات الشخصية في حال الرضى، وضاع كل شيء في حال الغضب!!

مهما يكن، فإننا إن اتفقنا على أن حركة التقريب بين المذاهب أو الفرق الإسلامية هي حركة فكرية قبل أن تكون أي شيء آخر، فلا بد أن نرتب على ذلك نتائجه:
أولها: أن الفكر يستلزم الحرية التامة في تناول القضايا والمسائل المتنازع عليها والمتفق عليها على السواء، بحيث لا تكون هناك محظورات بحثية.
ثانيا: الموضوعية والعلمية الدقيقة التي لا بد منها في كل فكر جدير بالبقاء والتأثير الإيجابي.
ثالثا: لأجل مصلحة التقريب الحقيقي لا بد من انفصال الفعل الفكري عن سلطة صاحب القرار في كلا الجانبين، وكذلك لا بد من الفصل –ولو مؤقتا– بين التناولات الفكرية وبين نتائجها الواقعية، ليس لأننا نريد حوارا فكريا مجردا، ولكن رغبة في الوصول إلى نتائج علمية دقيقة تؤسس للتعاون الحقيقي بين أكبر الكتل التي يحويها الجسد الإسلامي.
ومن هنا أقول: مخطئ في مذهبي من يقول إننا لا نريد حوارا ولا تقريبا بين مكونات الأمة الإسلامية، ومخطئ مثله من يريد أن يقيم الحوار على أسس هشة تتلاعب بها رياح الأحداث من وقت إلى آخر، كالتي نراها الآن.

هل هدم القرضاوي المعبد فوق رؤوسنا؟جاءت كلمات الدكتور يوسف القرضاوي لإحدى الصحف المصرية منذ عدة أسابيع وكأنها اختبار لفكرة التقريب ومدى صلابتها، وتركزت مؤاخذاته للاتجاه الشيعي في تعرضهم للصحابة بالسب واختراقهم المذهبي للمجتمعات السُّنية.
وكانت الردود على الحوار الصحفي عاصفة، حتى من أناس لهم تقدير كبير في العالم الإسلامي عموما، مثل العلامة محمد حسين فضل الله، مما يكشف عن التلفيق الذي أسِّست عليه فكرة التقريب، وأن النقد لا مكان له في إطار هذه الفكرة، وفكرة لا مكان فيها للنقد لا يُرجى منها أن تتقدم، ولا ينتظَر منها أن تثمر ثمرة نافعة.
ودخلت كثير من الأقلام السنية على خط "المواجهة" مؤيدة لموقف الشيخ القرضاوي أو معارضة له، وبرز في هذا مقال الأستاذ فهمي هويدي "أخطأت يا مولانا"، وأشار فيه إلى أن فقه الأولويات "الذي تعلمناه من القرضاوي "يلزمنا أن نتجنب إشعال المعارك الجانبية التي تشتت الأمة لحساب خصومها التاريخيين والعقائديين".
ولعل الاتفاق مع الأستاذ فهمي على هذا موضع نظر، لأن مواجهة الخصم الأصيل لا تفلح بجبهة ملفقة بين أطرافها هذه الحساسية المفرطة، وتغض الطرف عن الأسباب التي تحول دون الانسجام بين جنودها وكتائبها التي تتولى المواجهة في هذا الميدان أو ذاك.

إن استعانتك اليوم بمن يخالفك في بعض الأصول بدون تفاهم حقيقي، وترك المصارحة معه حول تصرفات خطيرة تريبك منه، ستطرح عليك في المستقبل عبئا قد لا تتحمله، فقبولك له بخطئه وصوابه يجعلنا نتعامل مع الواقع بمنطق: حُلَّ أزمة اليوم الأولى، وأجِّل غيرها إلى الغد، وهذا يُراكم علينا أزمات اليوم والأمس في المستقبل كما هو الحال الآن.
إن الحوار بين جناحي العالم الإسلامي مسألة لا يمكن أن تكون تحالفا آنيا يترك في العلاقة بين الطرفين ندوبا يؤجَّل علاجها إلى مرحلة أخرى، ولهذا من حق كل طرف –إضافة إلى ما سبق من ممارسة الحوار العلمي الحقيقي- أن يسأل الآخر عن شكوك تحوم حول بعض تصرفاته، إذ ما معنى أن تُقام أكبر جامعة شيعية في العالم في كابل إحدى العواصم السنية العتيقة، في وقت تقع فيه أفغانستان تحت الاحتلال الغربي؟ وما معنى أن تُمارس الدعوة إلى التشيع في الأوساط السنية في الغرب والساحة واسعة لدعوة غير المسلمين؟ وما المقصود بالجهود الشيعية المذهبية والمنظمة في دول سنية عتيقة مثل باكستان وبنغلاديش وغيرهما؟
وهذا كله لا لهدم مساعي التقريب ولكن لإنقاذها وتصحيح مسارها، واعتبارها مقدمة يعبر بها المسلمون جميعا إلى مستقبل أقوى.

ــــــــ


القضية الفلسطينية هل تأكل نفسها؟


- التآكل والتناقض
مشهد التقاتل الفلسطيني القائم الآن مروِّع بكل المقاييس، ويبعث على الأسى العميق، ويثير في قلوب الغيورين على القضية الفلسطينية خوفا شديدا على مستقبلها.
غير أن هذا المشهد نفسه يبدو طبيعيا تماما بالنسبة للناظر في الأجواء الدولية والإقليمية، وفي المسارات التي تحركت فيها القضية الفلسطينية منذ أن أنشئت منظمة التحرير وحركة فتح منتصف الستينيات وإلى الآن.
كان الجو الدولي منتصف الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات جزءا مما اصطلح على تسميته بالحرب الباردة؛ تلك التي اختبأ كثير من الكيانات السياسية أثناءها في لحاف أحد قطبيها هربا من ضغوط الآخر، أو من تناقضاته معها؛ فكانت هيمنة القطبين على الأنظمة الوطنية غير مطلقة في الغالب؛ بسبب الفرص المتاحة لهم حينئذ للمراوحة النسبية بين المعسكرين.
التوافق مع أحادية القطب

وفيما يخص البؤرة الفلسطينية الساخنة طوال الحرب الباردة، فقد قامت منظمة التحرير وحركة فتح كغيرها، على التوافق مع "ثنائية الأقطاب" أو كنبتة واعدة في ظل أنظمة عربية توافقت مع هذه الثنائية، وحمت انتماءها القومي المتحمس بهذا الوضع الحرج والآني.
إذ يرهن نفسه ومَن خلفه للخارج تحت حسابات لا تمثل حالة مضمونة الاستقرار في السياسة العالمية، وقابلة للنسخ والتغيير طبقا لتطور الوقائع كما قدمته قراءات شرقية وغربية مبكرة توقعت سقوط الشيوعية.
وأما حركة حماس فلم تكن لها علاقة بهذه الثنائية، فهي لم تعش طويلا في ظل الحرب الباردة، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها لم تعش هذه الأجواء مطلقا، حيث كان الوجود السوفياتي في الساحة الدولية قد اضمحل كثيرا حين نشأت الحركة نشوءً علنيا سنة 1987.
فكان امتياز الحركة نابعا مما تدعيه لنفسها من الإيمان المطلق بالحق الفلسطيني والانتماء الصارم إلى الذات العربية والإسلامية، دون حساب لأي تحالف أو توافق مع الداخل أو الخارج على حساب القضية والحقوق الفلسطينية.
وهنا مفارقة مهمة، ففي مقابل توافق فتح مع مناخ دولي ثنائي الأقطاب يتيح مساحة ما للحركة، ترفض حماس إلى الآن التوافق مع مناخ السياسة العالمية أحادي القطب والاختيار.
فهربت فتح باختيارها هذا إلى القطب الذي بدا لها أنه أقل تناقضا مع مشروعها النضالي من القطب الآخر، في حين لجأت حماس إلى الذات الفلسطينية ثم العربية والإسلامية تستحث قدراتها الكامنة، وتستولد الحلول بصورة أساسية من رحم الواقع الفلسطيني الذي حاولت علاج بعض مشكلاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
لكن لا أحد ينكر أن تحول العالم بعد الحرب الباردة إلى نظام أحادي القطب، أنشأ من الضغوط الداعية للتوافق ما عجزت عن مقاومته دول مستقرة ومستقلة دفعها الواقع الجديد إلى التوافق مع السياسة الأميركية في حربها وسلمها، فما بالنا بمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها.
وحينما حاولت المنظمة أن تتمرد على الوضع الدولي الجديد بتأييد الغزو العراقي للكويت سنة 1989، سقطت في استحقاق أكبر، وهو التوافق (القسري في حقيقته) مع "النظام العالمي الجديد"، حتى بدا هذا وكأنه اعتذار منها عن خطيئة تأييد العراق في غزوه للكويت.
وفي هذا المناخ وامتداداته عُقِد مؤتمر مدريد للسلام واتفاقية أوسلو ومحادثات كامب ديفيد الثانية، حيث سقطت بعض البنود من شجرة النضال الفلسطيني، وصار استخدام البندقية ضد الاحتلال مجرد وسيلة للضغط على المفاوض الإسرائيلي ودعم المفاوض الفلسطيني.
وهذا ما يعبر عنه أحد بيانات فتح بصورة غير مباشرة حين يقول "نحن الفتحاويين نؤمن منذ انطلاقتنا عام 1965 أن النضال المسلح يزرع، والعمل السياسي يحصد، ومن لا يزرع لا يحصد، ومجرم وخائن من يزرع ويرفض أن يحصد، وإلا تحوّل النضال إلى لعبة دم مقيتة تفرغ النضال من محتواه"!
إذن هو تناقض في الرؤى، وصراع بين أيديولوجية متوافقة مع الوضع الدولي القائم، وأخرى تجد تميزها أصلا في مقاومة التوافق.

الموقف من الآخرولكن حتى هذا لا يكفي في فهم كل أبعاد الموقف الفلسطيني الراهن، ويعنينا هنا بشكل خاص فهم الموقف النظري لكلا الطرفين من الآخر؛ أعني بالتحديد ما سجلته الوثائق الرسمية لهما بهذا الخصوص.
ففي حين يؤكد ميثاق منظمة التحرير التي أثرت فتح في توجهاتها منذ وقت مبكر أن "التناقضات بين القوى الوطنية هي من نوع التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي بين الصهيونية والاستعمار من جهة والشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية" فإن ميثاق إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يقرر أن "منظمة التحرير الفلسطينية من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق... فوطننا واحد ومصابنا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك..
(ولكن) تأثرًا بالظروف التي أحاطت بتكوين المنظمة، وما يسود العالم العربي من بلبلة فكرية، نتيجة للغزو الفكري الذي وقع تحت تأثيره العالم العربي منذ اندحار الصليبيين، وعززه الاستشراق والتبشير والاستعمار، ولا يزال، تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية.
والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة "وعلى الأفكار تُبنى المواقف والتصرفات، وتتخذ القرارات".
فموقف المنظمة التي ترى نفسها بقيادة فتح الممثل الشرعي والوحيد لشعبها من الآخر الفلسطيني موقف عائلي حالم يلفق المواقف بين أبناء لا تكفي الشعارات للجمع بينهم، لأن التوافق على الهدف لا يكفي -كما تنطق فصول الواقع الفلسطيني نفسه- لجمع الصفوف خلفه.
وأما موقف حماس فيعتمد على المفاصلة الفكرية مع الآخر غير الإسلامي، مع هامش من التسامح معه لا يحقق تلاقيا على الأسس الرئيسية للمشكلة الفلسطينية.
وكلا الموقفين يحوي في طياته نقاط تقاطع يمكن أن تنفجر حين تتوفر العوامل المساعدة على ذلك، فعقوق أمومة المنظمة، وكذا التناقض العملي مع الفكرة الإسلامية وأحكامها الفقهية من الطبيعي أن تولد على الأرض في الظروف القائمة أزمة سلاح لا أزمة مواقف.
التآكل والتناقضوأعني بهذا أن هناك استعدادا أصليا للمواجهة بين الطرفين تتمثل بعض عناصره في تباين البنية والتوجهات الفكرية، إلا أن هذا يظل مشروطا بشروط ينتمي بعضها إلى البنى الاجتماعية والعقول الممثلة لهذه الأيديولوجيات، وبعضها إلى الظروف الخارجية المحيطة بها.
ويتمثل هذا بالنسبة للحالة الفلسطينية الآن في ثلاث نقاط: الأولى أن تقاسم السلطة والقوة بين فتح وحماس على أرض واحدة ودون تحديد عرفي أو قانوني لصلاحيات وحدود كل طرف، أو دون استعداد الطرفين للالتزام بحدودهما وصلاحياتهما، يمثل جانبا خطيرا وداعما للأالموقف من الآخرولكن حتى هذا لا يكفي في فهم كل أبعاد الموقف الفلسطيني الراهن، ويعنينا هنا بشكل خاص فهم الموقف النظري لكلا الطرفين من الآخر؛ أعني بالتحديد ما سجلته الوثائق الرسمية لهما بهذا الخصوص.
ففي حين يؤكد ميثاق منظمة التحرير التي أثرت فتح في توجهاتها منذ وقت مبكر أن "التناقضات بين القوى الوطنية هي من نوع التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي بين الصهيونية والاستعمار من جهة والشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية" فإن ميثاق إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يقرر أن "منظمة التحرير الفلسطينية من أقرب المقربين إلى حركة المقاومة الإسلامية، ففيها الأب أو الأخ أو القريب أو الصديق... فوطننا واحد ومصابنا واحد ومصيرنا واحد وعدونا مشترك..
(ولكن) تأثرًا بالظروف التي أحاطت بتكوين المنظمة، وما يسود العالم العربي من بلبلة فكرية، نتيجة للغزو الفكري الذي وقع تحت تأثيره العالم العربي منذ اندحار الصليبيين، وعززه الاستشراق والتبشير والاستعمار، ولا يزال، تبنت المنظمة فكرة الدولة العلمانية.
والفكرة العلمانية مناقضة للفكرة الدينية مناقضة تامة "وعلى الأفكار تُبنى المواقف والتصرفات، وتتخذ القرارات".
فموقف المنظمة التي ترى نفسها بقيادة فتح الممثل الشرعي والوحيد لشعبها من الآخر الفلسطيني موقف عائلي حالم يلفق المواقف بين أبناء لا تكفي الشعارات للجمع بينهم، لأن التوافق على الهدف لا يكفي -كما تنطق فصول الواقع الفلسطيني نفسه- لجمع الصفوف خلفه.
وأما موقف حماس فيعتمد على المفاصلة الفكرية مع الآخر غير الإسلامي، مع هامش من التسامح معه لا يحقق تلاقيا على الأسس الرئيسية للمشكلة الفلسطينية.
وكلا الموقفين يحوي في طياته نقاط تقاطع يمكن أن تنفجر حين تتوفر العوامل المساعدة على ذلك، فعقوق أمومة المنظمة، وكذا التناقض العملي مع الفكرة الإسلامية وأحكامها الفقهية من الطبيعي أن تولد على الأرض في الظروف القائمة أزمة سلاح لا أزمة مواقف.
التآكل والتناقضوأعني بهذا أن هناك استعدادا أصليا للمواجهة بين الطرفين تتمثل بعض عناصره في تباين البنية والتوجهات الفكرية، إلا أن هذا يظل مشروطا بشروط ينتمي بعضها إلى البنى الاجتماعية والعقول الممثلة لهذه الأيديولوجيات، وبعضها إلى الظروف الخارجية المحيطة بها.
ويتمثل هذا بالنسبة للحالة الفلسطينية الآن في ثلاث نقاط: الأولى أن تقاسم السلطة والقوة بين فتح وحماس على أرض واحدة ودون تحديد عرفي أو قانوني لصلاحيات وحدود كل طرف، أو دون استعداد الطرفين للالتزام بحدودهما وصلاحياتهما، يمثل جانبا خطيرا وداعما للأزمة.

وتختلف وجهات النظر هنا بين الحركتين حتى الأعماق، ففي حين ترى منظمة التحرير أنها هي التي أنتجت الواقع السياسي الفلسطيني القائم بنظاميه الرئاسي والوزاري، ولا حق لأحد أن يستفيد من هذا المناخ على حساب المنظمة أو بدون الأسس التفاوضية التي قام عليها، فإن حماس ترى أنه لا حق لأحد في أن يتكلم باسم القضية الفلسطينية وفي فكره أن يتنازل عن أي جزء من الأرض مهما يكن.
وهذا ما أكده ميثاق الحركة في المادة الحادية عشرة حين قال عن التنازل عن فلسطين أو أي جزء منها "لا تملك ذلك دولة عربية ولا كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملك ولا رئيس، ولا كل الملوك والرؤساء، ولا تملك ذلك منظمة ولا كل المنظمات سواء كانت فلسطينية أو عربية؛ لأن فلسطين أرض وقف إسلامي".
النقطة الثانية: الظرف الدولي الساعي إلى تطويع كل شيء وفقا للرؤية الأميركية، أو ما يمكن تسميته "فرض التوافق" على كل الأطراف، إن لم يكن بلين المحادثات فبقسوة الحديد والنار.
وهذا الأمر هو الذي ولد أجواء التصادم الدموي، وحوَّلها من تهديدات إلى وقائع، ومن نار مكتومة تصدها جدران الواقع غير المتاح إلى إمكانية واسعة للتنفيس عنها.
ولكن لعل التصادم جاء أشد ترويعا مما يتوقع، وهذا أيضا تابع لمستوى الدعم السياسي والعسكري الكبير من الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرهما لأحد طرفي الأزمة التي لم تستهدف حكومة حماس وحدها، بل استهدفت الحركة كلها وربما المقاومة عموما.
النقطة الثالثة: لم تعد حركة فتح شيئا واحدا نستطيع أن نحكم عليه حكما عاما، فهناك من يستجيب للتحريض الخارجي ويتلقى الدعم الصريح لأجل هذا، وهناك من لا تسمح له مروءته ولا وطنيته بهذا، إلا أن "فتح الفاعلة" هي الأولى، وأما الثانية فتكاد تكون عاجزة في خضم الأحداث المتصاعدة.
ومهما يكن التحريض الخارجي قويا، فإنه لن يؤثر إلا في وجود استجابات من الطرف الداخلي مستعدة لذلك.
إذن، هل القضية الفلسطينية تأكل نفسها في خضم الأحداث الجارية، أم أنها تتخلص من تناقضاتها؟
أستطيع أن أقول: إنها تفعل الأمرين معا؛ لأن الأحداث الجارية ستؤثر بالتأكيد على قوة الطرفين، وتعمل على تآكل بعض هذه القوة؛ إلا أن أصعب ما فيها –مع بغضي الشديد لشلال الدماء الذي يسيل- هو أن تُبقِي الطرفين على نفس المستوى من تكافؤ القوة، فتظل إمكانية التقاتل قائمة ورهنا بأي تحريض خارجي.
وستكشف الأحداث بعد أن ينجلي الغبار الكثير المثار عن حسابات من الشارع الفلسطيني لكل الأطراف، وربما حسابات داخلية في حركة فتح، إن تغلبت روح العقل والوطنية على روح المغالبة والسيطرة بأي ثمن كان، وهذا هو تخلص القضية الفلسطينية من تناقضاتها.

__________



الرسوم المسيئة وصراع القانوني والمقدس


نبيل الفولي
ليست مشكلة الرسوم الغربية التي أساءت إلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم إلا مشهدا مكررا يعبر عن الاختلاف المفاهيمي والقيمي العميق بين قطبي العالم الثابتين: الشرق والغرب، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية من قضايا "حرية التعبير" والفكر.
وقد بدا ذلك من قبل في مواقف مماثلة، منها: إساءة الكاتبة البنغالية تسليمة نسرين إلى بعض المفاهيم الإسلامية، وتجريح الأديب الهندي الأصل سلمان رشدي لشخص النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الأكرمين، ودراسات الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد حول القرآن الكريم باعتباره نصا تاريخيا نسبيا، ومواقف غيرهم ممن يكرمهم الغرب ويمنحهم جوائزه، في حين ينظر إليهم المسلمون باعتبارهم مارقين.

وفي مشكلة الرسوم المسيئة القائمة بوجه خاص، بدا الطرفان منذ البداية وكأن كل واحد منهما يتكلم بلغة غير لغة الآخر، أو كأنهما يناقشان قضيتين مختلفتين!
فالمسؤولون في الصحيفة الدانماركية وساسة الدولة أنفسهم لم يروا، مع تصاعد الأزمة، حاجة إلى الاعتذار عن نشر الرسوم، لأنهم لم يقعوا في مخالفة "قانونية"، وفي المقابل رأى المسلمون ضرورة رد الاعتبار وتقديم الاعتذار إليهم، لأن الرسوم خدشت جانبا من "المقدس" الذي يجب أن يبقى بمنأى عن هذه التطاولات.
والمشهد في مجمله يشف عن جذور التجربتين الإسلامية من جهة والغربية من جهة أخرى، في واقعهما الحالي، حيث بُنيت التجربة الغربية على أمرين أساسين.
1 - القوانين والدساتير والمؤسسات: وذلك بعد صراع عنيف مع الدين، حتى استقر وضع الدولة الغربية في ظرف مثالي ضَمِن لها حياة أطول بإسراع عجلة التصنيع واتساع الحصيلة التكنولوجية التي قوت هذه الدولة ومجتمعها.
2 –شكلت مرحلة الاستعمار العسكري والحربان العالميتان بقية قسمات الغرب الحالي، فهو من جهة قاهر للشرق الإسلامي ومتفوق عليه في الجوانب السياسية والعلمية والمادية، ولا يُقبَل من المقهور أن يفرض على القاهر مواقفه (ولعلنا نلحظ نبرة الاستعلاء في أكثر التصريحات الغربية بخصوص مشكلة الرسوم المسيئة).
من جهة أخرى يحاول الغرب الحفاظ على التوازن بين أقطابه مهما اختلفت الأيديولوجيات والمواقف (الحرب الباردة حتى العام 1990 والخلاف حول غزو العراق عام 2004)، منعا لتسبب الصراع أو الاختلاف على قضية من القضايا في حدوث حروب غربية غربية جديدة، بعد أن قلموا أظافر التيارات اليمينية المتطرفة لديهم.
وعلى أثر نجاح الحداثة الغربية استقرت عندهم مجموعة المبادئ التي اعتمدت عليها التجربة في نجاحها، ومنها حق "نقد النموذج" المعروض أمام العقلية المتلقية وحواسها مهما تكن قيمته وقداسته، وسواء أكان هذا النموذج شخصا أم فكرة.
وعلى أساس هذا النقد هدم سلطان اللاهوت الجبار بعد التضحية بدماء وأرواح الكثير من نبلاء الناس وعقلائهم وعلمائهم، وعليه أيضا ثبت لديهم خطأ ما هو خطأ من الأفكار والمعتقدات وصواب ما هو صواب منها.

وبناء على هذه الطبيعة التي عاشتها التجربة الغربية: غاب المقدس وغير المقدس لحساب القانوني وغير القانوني، ولأجلها لم يدرك الغرب إلى الآن الفرق بين الدين الذي رفضه (المسيحية الغربية) والدين الذي ينتقده في مثل هذه المواقف (الإسلام).
فكلها "دين" والدين من شأنه أن يتسلط على ملكات الإنسان وحقوقه فيصادرها أو ينتقصها -كما عاينوا في تجربتهم- وهو جدير بأن يتحول إلى خيار شخصي مقلم الأظافر، أي بلا دولة ولا سلطة، والدين في هذا مثله مثل غيره يمكن انتقاده أو هجاؤه دون حساسية.
وأما التجربة الإسلامية المعاصرة -باعتبارها جزءا رئيسا من الشرق وباعتبار ذاتها الخاصة كذلك- فهي نتاح أمرين أيضا.
الأول: ماض يستمد أسسه من الدين باعتباره ركيزة للحياة القائمة والحياة القادمة (الآخرة)، وهو ما سمح بتحديد دائرة صلبة الجوانب للمقدس الإسلامي لا تقتَحم، والجسارة هنا لا تعني إلا الخروج على الدين في عمومه.

وتختلف دائرة المقدس هنا عما هي عليه في الأديان الأخرى، حيث سمحت هذه الأديان لدائرة المقدس فيها بأن تتسع فتضم جديدا، وتضيق فتستبعد بعض العناصر الكلاسيكية منها، فقد قبلت الهندوسية المعاصرة في رحابها حتى مَن اكتفى بمجرد التقديس الشرفي لكتابها "الفيدا" وقام ببعض الرياضات الدينية.
كما استبعدت اتجاهات مسيحية عريضة أفكار الخطيئة الموروثة والصلب والفداء من أدبياتها، وتنازل اليهود المعاصرون –إلا الاتجاهات الأرتوذكسية والمحافظة منهم وليسوا بأكثرية- عن اعتبار العهد القديم وحيا مقدسا وعن فكرة التميز الذاتي لليهود (شعب الله المختار).
وهذا التباين في الموقف من دائرة المقدس يمكن أن يفسر لنا جانبا من الحماسة البالغة التي تميز مواقف المسلمين تجاه أي تجريح يتعرض له القرآن الكريم أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو مسجد (البابري بالهند، وأكثر من هذا الأقصى بفلسطين مثلا) أو معنى ما من المعاني الإسلامية.
الثاني: قامت التجربة الإسلامية الحديثة على شيء آخر، وهو الكفاح المرير ضد الغزو الخارجي، وإنتاج واقع وطني متشابك ومختلف عن الواقع التراثي للمسلمين السالفين، وهو في الوقت نفسه غير موافق على بيع الهوية والتاريخ للغزاة.
ومن هذا وذاك نشأت مشكلات التوفيق الصعب بين ثلاثي الأصيل والجديد والوافد، وظهر الاختلاف العميق في الأفكار المطروحة لنقل الواقع الإسلامي إلى الأمام بين سلفية حرفية، وتغريبية تقدِّم العنصر الحضاري المستورد على حساب العناصر الذاتية الأصيلة.
لقد احتوى المقدس القانوني وصار مصدرا أساسا له لا يقبل المصادم شريكا في مفهوم الشرق الإسلامي التراثي، وورث المسلمون المعاصرون أصول هذا المفهوم، وإن بدا لديهم غائما شيئًا ما.
لكن الواقع الآن يسير أمامهم بقوانين وضعية مستوردة في الغالب ولا هيبة لها لولا عصا السلطان، فتعيش الجماهير المسلمة منذ أكثر من قرن –لأجل ذلك- ممزقة بين المفاهيم التي تؤمن بها والواقع الذي تعاينه.

واللافت للنظر في زلزال الرسوم وتوابعه هو أن كلا الطرفين -الإسلامي والغربي- يحاسب الآخر في مواقف رد الفعل من منطلقه هو المحدد سابقا.
فالغرب –حتى على مستوى المفكرين والمؤسسات المستقلة عن الدولة– ينتقد بشكل مكرر حالات انتهاك حرية التعبير في عالمنا الإسلامي مهما تكن تلك الأفكار الممنوعة (راجع بعض حالات ادعاء النبوة مثلا)، وفي المقابل لا يتردد العالم الإسلامي عن الاحتجاج الصارخ على الإساءة إلى شخص أي نبي، وإن كان للغربيين علاقة قوية به.
وقد بدا ذلك بوضوح في رفض المسلمين للفيلم الشهير "آلام المسيح" ومقاومتهم انتشاره، والاحتجاج على نشر صور خيالية لنبي الله موسى عليه السلام، وفي الحالين قُدم المقدس من قبل المسلمين متجاوزا للقومي، وحتى القانوني (الغربي) بشكل كبير.
ولعل الأهم والأخطر كذلك هو أن مواقف الفعل الغربي تجاه المسلمين تصدر مراعية لمنظوره هو وحده، حيث لا يرون أنهم يخالفون "القانون" بالتعرض لشخص النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق (والتراجع ليس أكثر من التفاف براغماتي على الموقف، وسيبقى ثابتا من وجهة نظر أدبياتهم أنهم لم يخطؤوا).
وغاب عنهم أن القانون في أصله ليس مجرد مجموعة من القواعد التي تبيح أشياء وتحظر أشياء أخرى، وأن الالتزام الأخلاقي بوجوب طاعة القانون الذي يقول به القانونيون الغربيون أنفسهم يعني أن القانون لا ينفرد وحده بسياسة حياة الناس، حيث تشاركه أصول أخلاقية أوسع منه مدى، وهي وحدها يمكن أن تلزم الإنسان باحترام خصوصيات الآخرين، ووضعِ بعض الأشياء والأشخاص بعيدا عن مرمى التجريح والاستهزاء.
وعلى هذا الأساس لا يعرضون لشخص المسيح عليه السلام مثلا بمثل هذا التجريح.

_________


جيش الدفاع" والبحث عن نصر وهمي في غزة





هل تنجح إسرائيل في غزة؟
يبدو أن إسرائيل ستبقى طويلا تعيش الوهم بأن ذراعها الطويلة ستظل قادرة على الوصول إلى أي خصم في أي مكان من العالم، بعد أن نجحت خلال العقود السابقة في اصطياد من تبقّى من زعماء النازية ومحاكمتهم على الرغم من ذهاب ريح النازية قبل ذلك بزمن، وبعد نجاحها أيضًا في اغتيال العديد من القادة الفلسطينيين الكبار في لبنان وتونس وغزة وغيرها.
وقد تكون هذه الأوهام الصهيونية هي القائد غير المحسوس لـ "جيش الدفاع الإسرائيلي" إلى وحل لبنان في الحرب الأخيرة مع حزب الله، دون إدراك منهم للتغيرات التي طرأت، ولا المعادلات التي تبدلت أطرافها، ولا تغيُّر مستوى الوعي لدى الخصم.



إنها القراءة الخطأ للمشهد المعقد التي وقع فيها العرب من قبل فهُزموا، وتقع فيها إسرائيل اليوم فتُهزَم، وسيُهزَم أيضًا من يقع فيها غدًا (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
وقد ركزت التحليلات السياسية لنتائج الحرب الأخيرة بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل، على أن الفشل الصهيوني في لبنان قد جر متاعب جمة لوزارة إيهود أولمرت، ولكن الحقيقة هي أنه جر متاعب مادية ونفسية أكثر على المواطن الإسرائيلي نفسه.
فقد تبخرت نظرية الأمن التي يعيش هذا المواطن تراوده أحلامها دائما، وبات في أزمة مركبة مع الحكومة التي اختارها وفشلت في مغامرتها في لبنان، ومع الخصم الذي امتلك على الحدود الشمالية أسلحة تطول الأعماق اليهودية، ولم يكتف بامتلاكها، ولكنه استخدمها، واستخدمها بصورة مؤلمة في ضرب العمق الإسرائيلي في مناطق حساسة جدا منه.
وإلى هذا الخطر الداهم -في الأساس- ترجع المساندة الشعبية الصهيونية لجيشها في حربه غير الأخلاقية على لبنان أرضا وشعبا.
نعم، فجّرت الحرب الأخيرة على لبنان أزمة نفسية عنيفة للمواطن الإسرائيلي، وفقأت فقاعة الأمن المزعوم التي يعيش في داخلها، بعد أن صُوِّر له جيرانه القريبون طوال العقود السابقة على أنهم مجموعة من الذئاب الضارية تريد الفتك بإسرائيل وإلقاء شعبها في البحر، دون أن يزع هؤلاء الجيران وازع أخلاقي، أو يحكم تصرفاتهم مبدأ إنساني، وتعاقدت على تأكيد ذلك آراء الساسة والاجتماعيين والأدباء الصهاينة.
وقد صار في إمكان هؤلاء الجيران –كما أثبتت الحرب الأخيرة- بصورتهم تلك المخيفة أن يضربوا إسرائيل في العمق.
ولم يغير من هذا الشعور لدى المواطن الإسرائيلي تلك الصور الأخلاقية المتناقضة التي قدمتها الحرب لكل من حزب الله وجيش الدفاع، فقد بدا حزب الله أكثر أخلاقية ومحافظة على المبادئ الإنسانية من الجيش الذي زوَّر الحقائق زمنًا طويلا زاعمًا أن خصومه همج ولا أخلاقيون، وأما هو فعلى النقيض من ذلك. ويكفي لتأكيد هذا التفاوت الكبير المقارنة بين ضحايا الطرفين اللبناني والإسرائيلي مدنيين ومقاتلين في حرب عام 2006م.
البحث عن النصر بأي ثمنمهما يكن، فقد كان من الطبيعي أن تتكيف إسرائيل مع واقع جديد لم تعد تملك فيه كل أوراق اللعبة، أو تبحثَ عن حل لأزمتها تلك يتجاوز مفردات الواقع ولا يتصالح معها، وذلك بالبحث بأي ثمن عن نصر يعيد إليها الثقة في نفسها، وتمثلت محاولاتها في هذا الاتجاه في أمرين:
الأول: الاستقواء بالمجتمع الدولي في حماية الجبهة الشمالية للدولة العبرية مؤقتا، على أمل أن تأتي فرصة ما يمهد لها الداخل اللبناني في صورة واقع سياسي ملائم، أو حالة إقليمية ودولية مواتية؛ لنزع صواريخ حزب الله ذات الخطر الهائل على إسرائيل.
وقد يأتي هذا فيما بعد –وفقا لحسابات معينة تصدق أو تكذب- ضمن برنامج عام لتأديب إيران وسوريا، وهو ما تعوقه الآن أزمة الأميركيين العميقة في كل من العراق وأفغانستان، حيث لا يستطيعون البقاء ولا الرحيل، كما تعوقه التعقيدات والتقاطعات الكثيرة في خطوط السياسة اللبنانية الداخلية.
الأمر الثاني: -وهو الأهم في هذا المقال- تكثيف الهجوم –غير المنقطع أصلا- ومتابعته على غزة دون مبالاة بالضحايا وأعدادهم، ولا الدمار وحجمه، والحجة هي منع الفلسطينيين من إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ولعل القوة الصهيونية تفلح أيضًا في تخليص جنديها الأسير دون خضوع لمطالب الفلسطينيين أو شروطهم.

والذي يؤكد أن إسرائيل تسعى بهذا إلى تغطية سوأتها التي انكشفت بعد حرب لبنان الأخيرة، هو أن الوقت غير ملائم بالمرة لهذه الحملة، حيث إن المفاوضات مع الفلسطينيين لتحرير الجندي الأسير كانت قد وصلت تحت رعاية مصرية إلى مستوى معقول من التقدم، كما أن الجبهة الداخلية الفلسطينية كانت في أزمة حقيقية وصراع ضيَّق الاعتداءُ هوَّته، وفي الوقت نفسه وصل إطلاق الصواريخ الفلسطينية على المناطق اليهودية تحت وطأة الأزمة بين حماس وفتح إلى مستويات ليست هي الأعلى على كل حال.
ويبدو أن حسابات حكومة أولمرت في هذه الحملة الشرسة على الفلسطينيين، تقوم على أنها لو حققت الأمن لمواطنيها في المستوطنات المتاخمة لقطاع غزة، خاصة من جهة الجنوب، فإن هذا قد يُنسي الناخب الإسرائيلي شيئا من مراراته في لبنان.
كما أن هدير المدرعات الإسرائيلية في زحفها المظفر على غزة وأصوات المدافع المدوية تلهي المواطن الإسرائيلي عن الماضي القريب بآلامه وأوجاعه، وتجعله يغض طرفه -ولو مؤقتا- عن أخطاء قادته السياسيين والعسكريين في الحرب الأخيرة، ويحيط نفسه من جديد بهالة من الأمن الخادع.
وهنا قد يبدو تحالف أولمرت مع ليبرمان -رئيس حزب "إسرائيل بيتنا القومي"– مساندة للحكومة المأزومة في موقفها بعد الحرب، واستغلالا من ليبرمان لأزمة أولمرت وحكومته، أكثر منه دافعا إلى الحملة الشرسة على غزة.
هل تنجح إسرائيل في غزة؟ولكن، هل يمكن أن تفلح إسرائيل مع الفلسطينيين فيما لم تفلح فيه في لبنان؟
إما أن يدمِّر "جيش الدفاع" ويقتل، ويصمت العالم عربه وعجمه، ويغطي الأميركيون جرائمه، فهذا معتاد وحدث من قبل كثيرا، وقابل للحدوث الآن وفيما بعد –للأسف الشديد- ما دامت المعادلة الإقليمية والموقف الدولي على صورتهما الحالية.
إلا أن المشكلة الحقيقية التي تواجه إسرائيل الآن، وستتجلى أكثر في المستقبل هي أن خصمها منذ أكثر من عقدين قد تغير، فتأقلم مع واقع الأزمة واعتاده، ولم يعد هذا الخصم وجوها محددة تتولى المقاومة وتموت القضية بموتها، أو يسقط ركن كبير بسقوطها، ولكنها أجيال نشأت في ظلال المعاناة، وتعلمت أن الحل الوحيد لقضاياها يكمن في أن تنزل إلى ساحة الحل بنفسها، أو على الأقل تقوم بالمهمة الأساسية في هذا الجانب.
وقد كانت الناصرية في مصر تشير إلى كثير من هذه المعاني في صحافتها وخطبها السياسية، وأنه إن فني جيل عربي دون أن ترجع الحقوق العربية فستعود الحقوق على يد جيل آخر.
ولكن غاب عنها في ذلك الحين أن هذا مرهون بتغيرات بِنَوية وسياسية وفكرية في تركيبة الجبهة المقاوِمة للمشروع الصهيوني، ومرهون أيضًا بإصلاحات داخلية فيما تحت أيدينا من حقوقنا.

وقد حققت الأقدار شيئا من هذا التغيير بعد عقود من قيام المشروع الصهيوني في فلسطين، مما يضع الموقف العربي فوق سلم تصاعدي ولو ببطء شديد، وعلى الرغم من الانهيارات والتصدعات الخطيرة في الحالة العربية الرسمية.
لقد تحولت صورة الخصم المادي المحدد الذي يمكن أن تصل إليه الذراع الإسرائيلية أينما كان، إلى خصم فكري وعقائدي لا يحمل ترهلات الماضي، ولا تفرض عليه أخطاء الداخل أو الخارج الانكماش في مواقع أساسية معينة، كما أن انتهاء فترة الحرب الباردة علمت الشعوب المستضعفة أن تعتمد على ذاتها، بدلا من أن تعزف على تناقضات القوتين العظميين.
ولابد من الإشارة هنا إلى موقف الأميركيين من الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، حيث يبدون كمن لا يريد أن يفهم حين يفسرونها على أنها "دفاع عن النفس".
فهل يدرك التيار الإنجيلي -الذي يؤثر في اتجاهات الإدارة الأميركية- أن سياساتها تباعد أحلامه باجتماع اليهود في أرض فلسطين، وما يلي ذلك من عودة المسيح، إلا إذا كانوا يحلمون بإبادة جميع العرب والمسلمين؟

ـــــــــــــ

قاطرة الإصلاح العربية بين معوقات الداخل والخارج


نبيل الفولي
يعيش مفهوم الإصلاح في أعماق الأمة الإسلامية بأشكال متعددة، فسِيَر الأنبياء كما يحكيها القرآن الكريم تقدم نماذج لإنقاذ الأرض من البوار التام، إذ لو تركت الأقوام الكافرة والعاصية لآثامها وذنوبها لأكلتها الآفات الأخلاقية، فيكون مجيء النبي ليس لمجرد إنقاذ الناس من الانحراف العقائدي والعبادي، ولكن لتجديد الإقامة البشرية فوق الأرض وتجنيبها عوامل الفناء الذي ينتجه الانطفاء الأخلاقي والحضاري للمجتمع الإنساني.
كما يعيش مفهوم الإصلاح في أعماق هذه الأمة أيضا بما نراه في صفحات تاريخنا من توالد المصلحين حتى في أحلك الظروف، فلا يخلو جيل من هذه الأمة منذ بُعث نبيّها –عليه الصلاة والسلام- من صالح ولا عالم، أو من مدرسة علمية ولا مدرسة إصلاحية تقوم بدور الحادي الذي ينبه الناس إلى ما ينبغي إحياؤه وما ينبغي تركه من العلم والعمل.

مفهوم الإصلاح يعيش في أعماق هذه الأمة كذلك بهذا الحديث الخالد: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى أبي داود والحاكم في المستدرك والبيهقي عن أبي هريرة، وقال: صحيح). ورأس المائة سنة هنا لا تعني بالضرورة رأس القرن الهجري، حيث إن التأريخ الإسلامي بالهجرة أو غيرها من الأحداث لم يكن معروفا أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم– وإنما بدأ في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– فلا يجب أن يفهم رأس القرن الذي يشير إليه الحديث على أنه بداية كل قرن هجري ضرورة.
وقد شهد العصر الحديث محاولات كثيرة للإصلاح العربي والإسلامي، ومنها ما أطلقنا عليه في أدبياتنا اسم "النهضة العربية الحديثة"، وقد أدى الارتباط الزمني بين هذه النهضة وبين الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798–1801) إلى اعتقاد الكثير من المفكرين والمؤرخين في الغرب والشرق وجود ارتباط سببي بينهما، وأنه لولا هذه الحملة العسكرية الشرسة لما نهض العقل العربي الحديث، ولما تجاوز مأساة التخلف والظلام الحضاري الذي كان يحياه.
والحقيقة أنه من الصعب أن ننكر أهمية الصدمة الحضارية التي نتجت عن التلاقي الغربي الإسلامي أثناء هذه الحملة خاصة، إلا أن تحليل حدث النهضة العربية الحديثة، وهو حدث كبير بلا شك، وإسناده إلى عامل واحد وخارجي في الوقت نفسه تحليل ناقص؛ إذ لا يلاحظ كون الظاهرة المحلّلة مركبة، ولا أن القوى الإيجابية الكامنة في الأمم وعوامل الفاعلية الذاتية شرط ضروري لحدوث الحراك الحضاري.
وكدنا في هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبعد أن تحولت دفة "القوة الأولى" في العالم من شواطئ الأطلسي الشرقية إلى شواطئه الغربية، نكرر الأغلوطة من جديد، وذلك حين أعلن الأميركيون عن ضرورة أن تنهج الأنظمة العربية نهجا ديمقراطيا في إدارة بلدانها، وأعلنوا تبنيهم خططا تدعم هذا الأمر.
نشطت لذلك الدعوات الداخلية العربية إلى الإصلاح، وأحس بعض المتفائلين منا بأن قليلا من الدعم أو الدفع أو حتى الحياد الأميركي تجاه الموقف العربي الداخلي سيكون كافيا لتغيير الحال التعس، ولو عن طريق انتخابات تعبر بصدق عن رأي الشعوب بعيدا عن الصناديق الجاهزة وتعنت سلطة الداخل ضد أي تغيير.
ولو جرت الأحداث في هذا المسار، لانطلق المفكرون والمؤرخون بعدها بالقول إنه لولا الدفع الغربي (الأميركي هذه المرة) في اتجاه الديمقراطية لظل العالم العربي والإسلامي أسيرا للثقافة الدكتاتورية ردحا طويلا من الزمن وربما إلى الأبد.
وكأننا وفقا لهذه التحليلات، ناقصو أهلية؛ نملك القدرة على التأثر فقط ولا نملك القدرة على الفعل المستقل، فضلا عن التأثير في الآخرين.
حقيقة كدنا نكرر أغلوطة النهضة العربية والثورة الفرنسية، لولا التردد ثم التراجع الأميركي عن دعم الديمقراطية في المنطقة العربية، حيث أدت الحسابات الأميركية في المسألة إلى توقعات راجحة بأن لا يأتي هذا الدعم بنتائج في صالح الأميركيين، وأيدت ذلك النماذج الواقعية في انتخابات العراق ومصر وفلسطين.
ولأجل هذا تركت السياسة الأميركية قاطرة الإصلاح العربية تواجه مصيرها وحدها وسط عوامل دفع وعوامل تعويق تتضمنها خريطة الواقع العربي والعالمي عموما.
ومع هذا، فليس من الغريب أن تبقى السياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية واحدا من أهم العوامل الخارجية المؤثرة في جهود الإصلاح الداخلية في العالم العربي، إذ إن تخلي الأميركيين عن دعم الديمقراطية والإصلاح في العالم العربي، ولو بشكلها غير المشروط، لا يعني أنها نأت بنفسها عن تلك الساحة، بل أنها تنظر إلى الداخل العربي –كما هي العادة– بمنظار المصالح الأميركية.
وتلفت النظر هنا حالتان قائمتان للتعامل الأميركي مع القضايا العربية، الأولى هي إعادة الأميركيين كامل علاقاتهم الدبلوماسية مع الجماهيرية الليبية فجأة مؤخرا، وهو أمر لم يأت نتيجة تغيير حقيقي في نهج الحكم الليبي، ولا بعد إضفاء شيء من الديمقراطية على أنماط إدارة الدولة، وإنما فقط بعد الاطمئنان التام إلى تفكيك ما سمي بالمشروع النووي الليبي، واستجابة طرابلس لكل المطالب الغربية بالتعويض عن حوادث التفجير التي اتهمت ليبيا بالضلوع فيها، وأشياء أخرى قد تفاجئنا الأيام بالكشف عنها.
وعلى النقيض من هذا يأتي الموقف الأميركي من الصومال، حيث يدعم الأميركيون زعماء الحرب الذين حطموا كيان الدولة الصومالية، وفشلوا في تحقيق الاستقرار حينما حاولوه، وذلك ضد المحاكم الإسلامية التي هي جهد شعبي حاول أن ينتشل البلاد من الفوضى في انتظار أن تأتي حكومة منتخبة من الشعب تتسلم مقاليد الأمور في البلاد، لتبني على ما بذله المجتمع المدني الصومالي من جهود رائعة بالقياس إلى إمكاناته القليلة.

إذن الذي يحكم الموقف الأميركي من حركات الإصلاح العربية في البداية والنهاية هو مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها، خاصة إسرائيل، وليس الديمقراطية ولا غيرها.
بل إن محاولة تسكين الديمقراطية في المنطقة هي نفسها بحث عن المصلحة الأميركية، كما يسهل فهمه من تصريحات المسؤولين الأميركيين عن ما سمي "دمقرطة المنطقة".
ولكن قاطرة الإصلاح العربية لا تتأثر بالعامل الأميركي وحده، فهناك عوامل الداخل التي هي أكثر تأثيرا عليها، وأخطر هذه العوامل اثنان:
1 - عقلية الحكم العربي المطالَب بالإصلاح: وأمامه ثلاثة خيارات؛ فإما أن يفاجئ التاريخ بمواقف غير متوقعة ويتبنى مشروعا إصلاحيا يقود الأمة به مثل الحالة الماليزية إسلاميا.
وإما أن يسلك سبيل الالتفاف على المطالبة بالإصلاح بإجراء تغييرات شكلية يبقى معها أصل الحال كما هو.
وإما أن يواجه المطالبين بالإصلاح مواجهة عنيفة، ويستمر مسلسل القبضة الحديدية. والأخيران أمران شائعان في أغلب التجارب العربية مع دعوات الإصلاح إلى الآن.
2 - الطبيعة العقلية والتكوينية للحركة الإصلاحية نفسها: وهي في الواقع القائم تقع بين الضغط الداخلي والضغط الخارجي المؤجل إلى مراحل أكثر حساسية، وبقدر استعمال الحركة قدراتها وطاقاتها المادية والمعنوية في مواجهة تعقيدات الواقع الداخلي والدولي يمكن أن تنجز الإصلاح أو شيئا منه.
وفيما يخص الداخل ينبغي أن يُطَمئن دعاة الإصلاح والتغيير الحكومات إلى أن الإصلاح الحقيقي يأتي في مصلحة الجميع، بل سيكون إنجازا تاريخيا عظيما للحاكم الذي ينجزه (محاضر محمد نموذج الحالة الماليزية).
كما ينبغي أن لا يخدع دعاة الإصلاح بسياسات الالتفاف على مطالبهم الأساسية فقها للقاعدة العُمرية "لست بالخب ولا الخب يخدعني".
وأما السياسة الحديدية فلا تقدر على إطفاء الجذوة المتقدة، وكما قالوا: الضربة التي لا تكسر الظهر تقويه، وقد أدرك الأميركيون هذا الأمر الأخير في تعامل الحكومة المصرية القاسي مع الدعاة إلى الإصلاح ومؤيدي القضاة في مصر، فعبرت الولايات المتحدة عن قلقها تجاه هذه السياسات؛ لأن الأمر قد يؤدي إلى اضطراب أو انفجار غير محدد العواقب.
أما بالنسبة للخارج، فلابد أن نقرر بلا تردد أنه ليس من مصلحة جهود الإصلاح العربية أن تستظهر بأميركا أو غيرها من قوى الخارج؛ لأن تحقيق أهدافها بهذا الطريق يعني أنها غير مؤهلة أو لا تمتلك القدرة الكافية على الانتقال بالأمة إلى حال أفضل، كما أنها إن نجحت فستجعل مصيرها أسيرا للخيارات التي يقع عليها الخارج (النموذج العراقي).
ولا يغيب عنا هنا درس التحرر من الاستعمار منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث أثبتت حركة التحرير مصداقيتها أمام الجماهير بما انتهجته من سبيل الإصرار على التحرر التام من الاحتلال العسكري بدون استقواء بالخارج.
ولكن حركة التحرر هذه فشلت، من جهة أخرى، في مواصلة السير بالأمة إلى الأمام لأنها لم تنظر أبعد من قدميها؛ أعني أنها بحثت عن التحرير بمعناه الضيق، وهو خروج العساكر الغربية من البلاد، وإن كان مطلبا مهما، ولكنه لم يكن كافيا.


وهذا يعني أن حركة التحرير كانت في حاجة إلى حركة إصلاح سياسي وفكري واجتماعي تكمل المسيرة، وهو ما نأمل أن تقوم به جهود الإصلاح الحالية.
ولكن، ماذا نقول عن العائق الخارجي لعملية الإصلاح في العالم العربي: كيف نتجنبه؟
وفي الجواب أقول: إن قضية الإصلاح بشكل عام تقع –كما سبقت الإشارة- بين عوامل متعددة بعضها عامل دفع ومؤازرة للحركة الإصلاحية، وبعضها عامل تعويق، وربما تحطيم لجزء من جهود الإصلاح.
ومحاولة تقوية عوامل الدفع وإضعاف عوامل التعويق هي إستراتيجية الفعل التي ينبغي أن يلتزم بها الإصلاحيون، ويقترن بذلك تسويق المشروع الإصلاحي على نطاق جماهيري واسع، تعزيزا لوجوده في عقل الأمة ووجدانها.
ومن هنا يصبح اقتلاع الإصلاح من جذوره، حين يمثل مشروع أمة، أمرا لا تستطيعه أي قوة خارجية أو داخلية، وهذا ما يهمنا: أن تبقى عملية الإصلاح فسيلة حية في تربة الوطن تستطيع الأجيال أن تتناوب على محاولات استنباتها حتى تنمو وتستغلظ وتستوي على سوقها، ثم يتبع ذلك الإزهار والإثمار الحضاري العظيم.
إن قاطرة الإصلاح العربية لا تستطيع ببرامجها ومواقفها الثابتة أن تنجز بعض أهدافها فحسب، ولكن تستطيع أن تسهم أيضا في مراكمة التناقضات فوق صورة خصومها في الداخل والخارج.
وهذا هو الأمر الذي يخنق –ولو بالتدريج– أعتى القوى، ويضعها في تناقضات صارخة في المفاهيم والمواقف، ولكن المعول عليه أولا هو القوة الذاتية للإصلاح وليس انتظار مواقف الآخرين.

________________

عودة الرسوم المسيئة وعلاقة الأمة بذاتها


نبيل الفولي

- مراجعة ناقصة- هل ساعدناهم؟- دفاع عن الذات المهدَرة
إن كان النشر الأول للرسوم المسيئة إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أثار كثيرا من المشكلات والقضايا الخاصة بالعلاقة بين الغرب والإسلام، فهناك جانب آخر قد يثيره تكرار نشر هذه الرسوم وعودتها إلى الظهور من جديد بعد أن هدأت العاصفة الأولى، ألا وهو علاقة الغرب والمسلمين كل بذاته وماضيه.

مراجعة ناقصةففيما يخص الغرب: راجع العقل الغربي كل المقولات التي كانت سائدة لديه في قرونه الوسطى المظلمة فرفض مع الوقت أكثرها، وقبِل قليلا منها.
ولم يكن الأمر في الحالين رجحانا للمرفوض على المقبول من حيث الكم وحده، بل من حيث الكيف والخطورة كذلك، حيث رفض هذا العقل الرؤية المسيحية الأوروبية الوسيطة للمسائل المفصلية والأساسية، وقدم فيها رأيا جديدا.
ويلاحَظ أن التغيير الذي حدث في هذه المفاهيم لدى أوروبا الحديثة لم يكن تصالحا مع المفاهيم الوسيطة، بل لم يكن تعديلا جزئيا لها، وإنما هو التحول الجذري المتنوع عنها؛ فبدلا من الإله المسيحي بمفهومه المعروف مثلا عمت أوروبا نزعات الإلحاد والشك والهرطقة.
فظهرت المدرسة الاجتماعية في فرنسا مدَّعية أن العقل الجمعي هو الذي يخلق الإله والدين والعلم ومختلف الظواهر الثقافية والاجتماعية، كما أغرق كثيرون في رومانتيكية تبحث في الطبيعة عن مقدس آخر غير الإله.
وبلغ الأمر قمته بأشد إعلانات التاريخ غرابة، حين جهر العبقري المجنون فريدريك نيتشه بإعلانه الشهير عن موت الإله!.
وجاء النداء الأوربي بإعدام آخر ملك بأمعاء آخر قسيس تعبيرا عن ضرورة التخلص من تركة العصر الوسيط التي حمل أوزارها كاملة كل من الاستبداد السياسي والاستبداد الديني.
ولهذا كله يمكننا أن نتساءل عن أوروبا الحالية خاصة، التي ترتمي الدانمارك ناشرة الرسوم المسيئة في المرتين فوق صقيعها الشمالي: ماذا بقي لديها من مفاهيم القرون الوسطى عن الدين والإله والعالم والعقل والقانون والمقدس والمرأة والأسرة والسياسة والدولة والعلم والمجتمع والحياة والموت، وغير ذلك من المعاني التي يعني تبدلها تبدلا في الجذور والأسس، وتحولا في الوجهة والمقصد؟.
ولا شك أن فهم الآخر على غير حقيقته وبصورة زائفة فيها كثير من التهويل والتلفيق، لا شك أن هذا كان شائعا في تركة العصور الوسيطة الأوروبية.
وإذا كان القروسطيون الأوربيون قد وقعوا في هذا المحظور نظرا لضعف التواصل في تلك القرون الغابرة، وشيوع الأساليب العنيفة في التعاطي السياسي، وغياب المناهج العلمية والحياة الفكرية النظيفة، وشيوع التعصب المَقيت، فمما يؤسَف له أن يكون هذا هو الإدراك الغربي للآخر حتى اليوم، وبالأخص إدراكه للإسلام.
لقد صوَّرت أوروبا الوسيطة دين الإسلام وما يتعلق به من الرموز والشخصيات بصورة شائهة جدا، وتحكمت في ذلك عداوات وخصومات دينية وسياسية، فما الذي جعل الغرب الجديد يكمل التخلص من تركة القرون الوسطى دون أن يصحح هذه الصورة عن الإسلام، ولو بالفصل بين أخطاء المسلمين وبين حقيقة دينهم، وهو أمر يقتضيه المنهج العلمي الذي سوقت له أوروبا زمنا طويلا وما زالت، وخاضت لأجله حروبا دموية ضد الكنيسة والاستبداد السياسي؟.
إنها المراجعة الناقصة أو الانتقائية؛ إذ لم تبد أمام أعين القوم مصلحة قريبة في تصحيح صورة الإسلام ورموزه لديهم، مع أنهم درسوا كل شيء في هذا الدين تقريبا.
ولعل العكس هو الصحيح؛ إذ بدا لهم أن بقاء صورة الإسلام كما كانت في القرون الوسطى، أو تشويهها بشكل أكثر دهاء أعظمُ إفادة لهم.



وقد استُغلَّت الصورة النمطية التي قدمها العصر الأوروبي الوسيط للإسلام في خدمة الأهداف التنصيرية والاستعمارية الحديثة على السواء (راجع خطبة البابا الشهيرة واستشهاده بنصوص من العصر الوسيط)، بل اختلطت بذلك دراسات علمية عميقة وموسعة حول الشعوب والبلاد الإسلامية لتكون في خدمة الغازي الأوروبي، لا في خدمة الحقيقة.
لكن، ألم يكن في سلوك المسلمين المعاصرين ووضعهم المتدهور ما دفع الغرب إلى هذا الموقف دفعا، فيكون العقل الغربي في هذه الحال معذورا شيئا ما، ولا تتجاوز مشكلته في فهم الإسلام حينئذ حال التأثر بالواقع في الحكم على التاريخ والفكرة، وهو أمر وارد بقوة على أي أمة؟.
والذي يجيب على هذا السؤال بالإيجاب لابد أن يصف الغرب مع هذا بالسذاجة وضعف الخبرة، وهذا إن صح في حق الجماهير فلا يصح في حق أولي الرأي والفكر، ولا في حق الأكاديميات والجامعات العريقة التي وفرت لباحثيها حول الإسلام وشعوبه أعظم الإمكانات المطلوبة في حقل البحث العلمي الدقيق؛ من تعلم اللغات الأصلية للمسلمين، وزيارة مواقع الأحداث التاريخية في بلادهم، والحصول على أكثر المخطوطات والوثائق ندرة وأكثرها أهمية.
وهنا من حقنا أن نندهش من أن يظهر عشرات من الغربيين ممن ليست لهم في بلادهم مسؤولية سياسية رسمية أو دينية؛ عرفوا حقيقة الإسلام، وأثنوا عليه وعلى تعاليمه جهارا، أسلموا أو لم يُسلِموا؛ مثل: غوستاف لوبون، وبرنارد شو، وناصر الدين دينييه، حتى كاد الأمر يشبه الظاهرة.
وفي المقابل لا نجد شبها لهذا، إلا ما ندر في إطار الكتابات والآراء التي صدرت عن غربيين أصحاب مناصب دينية وسياسية، أو ممن لهم صلة بدوائر النفوذ الاستعماري والتنصيري؛ مثل: زويمر وليفي بروفنسال ومارجوليوث.
ثم إن كثيرا من التهم التي رُمي بها الإسلام وكتابه ونبيه قد نالت حظا واسعا من المناقشة والبيان والتفنيد بأقلام المسلمين وغيرهم من الشرقيين والغربيين، كما هو الحال مثلا في دفاع غوستاف لوبون الرائع في كتابه "حضارة العرب" عن شريعة الطلاق في الإسلام، وتعدد زوجات النبي محمد صلى الله وعليه وسلم ورده على اتهام الإسلام بأنه انتشر بالسيف.
لكن على الرغم من هذا الجهد الكبير، بقيت هذه التهم تُردَّد في وجه الإسلام ورموزه وتُكرَّر بصورة مملة، دون مناقشة ذات قيمة لهذه الجهود الحميدة التي تكفلت بالرد عليها.
ويجب أن نثير هنا في المقابل تعديل الغرب لتصوره القديم عن اليهود، فقد كانت صورة هؤلاء في العقل الغربي أشد بشاعة وقتامة من صورة المسلمين فيه، ومع هذا تغير التصور الغربي عن اليهود جذريا دون المسلمين.
وإذا أرجعنا هذا إلى كون اليهود شركاء في صناعة الحضارة الغربية الحديثة، فمن الغريب أن يصل تبديل صورتهم في العقل الغربي إلى حد تغيير عقائد الكنيسة نفسها؛ وذلك حين برأت اليهود من دم المسيح عليه السلام خلافا لمعتقدهم القديم فيه.
ثم: ماذا فعل المسلمون المعاصرون من أعمال عنف لم يفعلها الغرب حتى تُلصَق بهم وبدينهم تهم الإرهاب؟ بل ماذا فعل المسلمون من هذه الأعمال قياسا إلى ما فعله الغرب الحديث ضد كل أمم الأرض؟.
فلو قلنا إن المسلمين المعاصرين هم الذين دفعوا بالغرب إلى اتخاذ هذا الموقف السلبي من الإسلام، لكان الغرب وتعاليمه الجديدة أولى في المخيلة العالمية بتهمة الإرهاب من غيرهم.



أما ما يخص المسلمين في هذه القضية العامة؛ أعني علاقتهم بذاتهم وماضيهم، فمع أنهم لم يكملوا مراجعة تراثهم لتنقيته من كثير من الشوائب التي علقت به مع الزمن، بل لم يستطيعوا إلى الآن تصفية تدينهم بالإسلام من كثير من الأعلاق الاجتماعية والشعبية التي تراكمت عليه، فحَرَفت كثيرين منهم عن صفائه الأول بدرجات متفاوتة، مع هذا لا تزال التعاليم الإسلامية والماضي الإسلامي يمثلان للمسلمين عموما الجانب الرئيس في هويتهم وتكوين شخصيتهم.
قد يبدو هذا نوعا من الفصام بين الفكرة والحياة، وهو أمر يؤسَف له كثيرا، إلا أنه أيضا لا يخفي حقيقة واضحة تشير إلى قدرة الفكرة على البقاء، وانتظارها أجواء مناسبة لكي تبزغ من جديد.
من هنا نفهم، سواء كنا شرقيين أو غربيين، أن اعتراض المسلمين على إهانة رموزهم الدينية دفاع عن ذات تتعرض للإهدار، وإن لم يتمثلوا جوانبها بالشكل المرْضيّ إلى الآن.
وليست المسألة كما يصورها بعض الكتاب الغربيين هوسا دينيا مدفوعا بميول متطرفة واستعدادات عدوانية، ولو كانت كما تخيلوا لما شارك في الاحتجاج على المساس بالإسلام ورموزه سوى الإسلاميين والمشايخ والمتحدثين الرسميين باسم الإسلام في بلاده، فما بالنا إذا كان رجل الشارع العادي أكثر حماسة في الاحتجاج على الإهانات من الإسلاميين والمشايخ في أحيان كثيرة؟.
والمسألة في الحقيقة ليست أقل من ظاهرة فريدة في علاقة الإنسان بما يعتقد، وهو أمر تكشف عنه بصورة رمزية موحية إحدى القصص الشائعة بين الأفغان، فيذكرون أن إحدى البعثات التنصيرية نجحت في تنصير بعض المواطنين البوشتو، ودعوهم إثر ذلك إلى أحد الاحتفالات، وحدث أثناء الاحتفال أن تعرض أحد المتحدثين في الكنيسة لشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالتجريح، فقام أحد هؤلاء المواطنين ليقول له بلهجة غاضبة: لك أن تقول أي شيء، إلا أن تتعرض للنبي بسوء!.
ويروي الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه "الطريق إلى المدينة" قصة شاعر مسلم من الهند، كان مدمنا على الخمر، وفي أحد مجالس الشراب كان يتسامر مع أحد أصدقائه وقد سكر، فلمز جليسُه هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فما كان من الشاعر المسلم إلا أن ثارت ثورته، وقذف الرجل بالكأس التي في يده، وظل يبكي بحرقة على شتم النبي صلى الله عليه وسلم وإهانته في مجلسه.
إذن، قد تبدو الاحتجاجات الإسلامية في وجه الرسوم "زوبعة في فنجان" تثور وتهدأ أخيرا، إلا أنها تعبر عن معالم هوية لا تندثر إلا بالتربية المبكرة على موائد فكرية قتلت الحياة في البلاد التي نشأت فيها، وهي بالتأكيد غير قادرة على إعادة الحياة إلى العالم الإسلامي.

_________