الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

التأثير المنهجي للفلسفة اليونانية


التأثير المنهجي للفلسفة اليونانية
على العلوم التجريبية عند المسلمين


د. نبيل فولي محمد
(بحث منشور في مجلة الدراسات الإسلامية – إسلام آباد)

تمهيد:
نالت الفلسفة اليونانية حظا وافرا من اهتمام حركة الترجمة والتأليف العربية منذ وقت مبكر من حياة المسلمين، وحجزت لنفسها موقعا مستمرا – وإن اختلف وزنه - فوق الخريطة المعرفية للحضارة الإسلامية وإلى الآن(
[1])، على الرغم من المعارضة القوية التي لقيتها هذه الفلسفة في العالم الإسلامي طوال هذا التاريخ المديد من جموع من المحدّثين والفقهاء والأصوليين.
وفي أثناء هذه الرحلة الطويلة للفلسفة اليونانية في العالم الإسلامي تأقلمت مع أوضاع ثقافية متباينة، إلا أن الدين وتشريعاته احتل في هذه الأوضاع وعلى الدوام موضع المقدس الذي لا ينبغي المساس به، فقامت على هذا الأساس محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة بتأويل أحدهما ليتوافق مع الآخر أو يقترب منه. إلا أن هذا لم يغلق باب الاختلاف حول الفلسفة بين طرفين متناقضين في شأنها تماما، أحدهما يرى أنها "الحكمة" الخالدة التي أنتجها العقل الإنساني في سعيه نحو الحقيقة(
[2])، والآخر يرى أنها منتج غريب في مصدره وآرائه عن الإسلام والمسلمين.
وقد اعتمد هذا الجدل الساخن حول الفلسفة اليونانية في كثير من الأحيان على معرفة واسعة وإلمام شامل بها من الأطراف المتجادلة حولها؛ مؤيِّدةً لها أو معارضة. ومعنى هذا هو أن الفلسفة صارت مكوِّنا فكريا للكثير من العقول الإسلامية ذات المواقف المختلفة منها، ولأجل هذا من الطبيعي أن تتخلل تأثيراتُها الإنتاج العقلي والعلمي للكثير من المسلمين، حتى المعارضين منهم لهذه الفلسفة؛ كالغزالي وابن تيمية.
وقد حاولتُ في هذه الدراسة القصيرة أن أتلمس جانبا من جوانب التأثير التي تركتها الفلسفة اليونانية على الحياة الإسلامية، ألا وهو تأثيرها على ممارسة المسلمين للعلوم التجريبية، بعد أن درس الكثير من المفكرين والباحثين المعاصرين جوانب أخرى عامة وخاصة من تأثير الفكر اليوناني القديم في الفكر الإسلامي، وتوصلوا إلى نتائج مهمة في هذا الصدد، وإن لم تكن دائما محل اتفاق.
والحقيقة أنه من الصعب بادئ ذي بدء أن نصادر على مشاركة الحضارات الإنسانية المختلفة في صناعة تاريخ العلم التجريبي لصالح الحضارة المعاصرة أو غيرها، فقد شاركت الثقافات والحضارات - الكبرى منها على الأقل - في صناعة تاريخ هذه العلوم ومناهجها ونواتجها إلى اليوم كلٌّ بنصيب(
[3]).
إلا أنه لا مراء أيضًا في أن العصر الحديث شهد أوسع مشاركة إنسانية في بناء العلم بسمته التجريبي هذا، وبوجه أساس على يد الغرب ومجتمعاته. وهذا أمر منطقي تماما وكامن في الطبيعة المرحلية التي تميز الظواهر الإنسانية المتطورة؛ فما دام المتأخر قد أحسن فهم وتوظيف ما أنتجه المتقدم، فإنه لابد أن يربو في إنجازه المتعلق بهذه الناحية على إنجاز من سبقه.
ويتضح هذا عند مقارنة الإنجاز الإسلامي في العلوم التجريبية بما سبقه لدى اليونان والرومان والفرس وغيرهم، وأيضًا عند مقارنة الإنجاز الغربي فيها منذ القرن السادس عشر وإلى نهايات القرن التاسع عشر بما أنجزه المسلمون قبلهم، وأخيرا مقارنة الإنجاز الأوروبي في الفترة المذكورة بالإنجاز الغربي المنفتح أو العالمي؛ أي الذي شاركت فيه بلاد أخرى غير أوروبية على نطاق واسع، طوال القرن العشرين وإلى الآن.
ومن بين هذه المراحل كلها يمتاز الإنجاز العلمي الإسلامي في حقل الطبيعيات بما شهده من تثبيت معالم المنهج العلمي الخاص بها، باعتباره الأساس الذي يتكئ عليه العالم في بحثه موضوعا ما من الموضوعات.
والخطوة الأولى والفارقة في هذا الجانب تمثلت في إدراك المسلمين الواضح للتمايز المنهجي بين العلوم؛ وأعني به إيمانهم بأن العلوم تختلف فيما بينها في أشياء، منها أن لكل علم أو مجموعة من العلوم طريقة خاصة بها تتوصل إلى الحقائق العلمية(
[4])، وأنه لا يمكن أن تخضع جميع العلوم ولا أكثرها لمنهج بحثي واحد، سواء كان منطق أرسطو أو غيره.
وسوف نحاول هنا أن ندرس هذا الجانب لدى علماء الشرعيات واللغويات المسلمين أولا، ثم نبحثه لدى علماء الطبيعيات المعنيين بهذا البحث أساسا.
التمايز المنهجي بين العلوم لدى الفقهاء واللغويين المسلمين:
الحقيقة أن إدراك الفقهاء والأصوليين واللغويين المسلمين للتمايز المنهجي بين العلوم، قد بدا أكثر ما بدا في خلال نقدهم لمنطق أرسطو الذي قُدِّم - مع مجموعة من المفاهيم الفلسفية الأخرى - باعتباره منهجا عاما للمعرفة والعلم، أو على الأقل مقدمة عامة له، وسوف نتوقف أمام ثلاثة نماذج مشهورة في هذا الصدد كما يلي:
أولا: الحوار الجدلي الذي سجله أبو حيان التوحيدي بين أبي علي السيرافي ويونس بن متى القُنَّائي حول المنطق.
ثانيا: فتوى أبي عمرو بن الصلاح الشهرزوري الشهيرة بتحريم الاشتغال بالمنطق.
ثالثا: نقد أبي العباس بن تيمية التفصيلي لمنطق اليونان.
والحقيقة أن المقصود بالتناول هنا ليس نقد المسلمين للمنطق الأرسطي – كما قد يبدو - فلهذا دراساته الكثيرة والمتنوعة، وإنما نستخرج من هذا النقد ما يكفي للتدليل على إدراك هؤلاء النقاد الواضح للتمايز المنهجي بين العلوم.
ولعل ارتباط التمايز المنهجي بنقد المنطق قد نبع من ادعاء المنطقيين وأشياعهم عمومية المنطق منهجيا، بحيث لا يستغني عنه – حسب رأيهم - علم من العلوم؛ شرعيا كان أو لغويا أو طبيعيا.
وأخيرا نلاحظ أن العديد من الفقهاء والأصوليين الذين وقفوا من المنطق الأرسطي موقفا ناقدا ومعارضا كانت لهم تجارب منهجية مهمة في بعض العلوم، وكان هذا - قبل كل شيء – برهانا عمليا منهم على الاستغناء المنهجي عن المنطق، فالإمام الشافعي فيما يُروَى عنه يشكو في زمن مبكر من انصراف الناس عن كلام العرب إلى كلام أرسطوطاليس(
[5])، وهو نفسه منشئ أصول الفقه؛ أو منهج استنباط الأحكام من النصوص الشرعية في الإسلام. وابن الصلاح هو صاحب المقدمة الشهيرة في مصطلح الحديث، وصاحب تلك الحملة الشعواء على المنطق والفلسفة في الوقت نفسه. وأما ابن تيمية فلا تخفى جولاته المنهجية مع المتكلمين والفلاسفة والصوفية وغيرهم كما نطالعها في "درء تعارض العقل والنقل"، و"منهاج السنة النبوية" و"الرد على المنطقيين"، وغيرها.
والآن أقدم تفصيلا يبين عمق إدراك الفقهاء واللغويين المسلمين للتمايز المنهجي بين العلوم حسب ما سبق:
أ) أما الحوار بين الشاب أبي علي السيرافي (ت 368هـ) والشيخ أبي بشر متى (ت حوالي 327هـ)، فعلى الرغم من أنه لا ينبئ عن وجود إدراك كاف لدى السيرافي للفرق بين المنطق والنحو، إلا أن اللغوي الشهير كان على دراية باستعمالات المنطق المنهجية، وأنه مستغنَى عنه في هذا الباب، حيث انتقد على المنطقيين "ظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم"(
[6])؛ إذ لكل علم طريقته المتبعة في صوغ قواعده واكتشاف قوانينه.
ورد السيرافي على زعمهم بأن "الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان" بأن العلوم قامت مستغنية عن هذا الكتاب قبل تصنيفه، وهي بالمثل مستغنية عنه بعد تصنيفه، فالحاجة التي دفعت العلماء إلى سلوك سبلٍ أو مناهجَ معينة في العلم قبل كتاب "البرهان" هي نفسها التي تدفعهم اليوم إلى سلوك سبل مماثلة. تقول عبارة السيرافي الملبسة بعض الشيء: "فإن كان كما قال (أي ادعاء أن الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان) فلِمَ قُطِع الزمان بما قبله من الكتب؟ وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان، فهي أيضاً ماسةٌ إلى ما بعد البرهان"(
[7]). أي أن الحاجة التي تفرضها العلوم نفسها هي التي تحدد وجهتها المنهجية، حيث لا يمكن أن يُفرَض عليها منهج جاهز يأتي من خارجها.
ونلاحظ أن هذه الفكرة قد تمسك بها الكثير من خصوم المنطق اليوناني فيما بعد، ومنهم ابن الصلاح وابن تيمية – كما ستبين السطور التالية.
ب) أما فتوى ابن الصلاح الكردي الشهرزوري (ت: 643هـ) بتحريم الاشتغال بالفلسفة والمنطق، فمن المعتاد أن تُدرَس باعتبارها موقفا متشنجا للفقهاء من الفكر اليوناني، والحقيقة أنها تعكس فهمًا عميقًا من هذا الفقيه المفتي للتمايز المنهجي بين العلوم، بحيث يبدو المنطق – في رأيه - غير ذي موضع في حقول العلوم التي يشتغل بها العقل الإسلامي؛ لأن العلم الذي يمثل المنطق منهجه (أي الفلسفة) غير متوافق عنده مع النظرة الإسلامية، ولا حاجة بالمسلمين إليه. يقول ابن الصلاح بعد أن قدح في الفلسفة وأهلها قدحا شديدا: "وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه مما أباحه الشرع..."(
[8]).
ومما يدعم هذا التحليل: رفض ابن الصلاح في فتواه استخدام الاصطلاحات الفلسفية والمنطقية في العلوم الإسلامية، ومعلوم أن اصطلاحات أي علم هي جزء من بنائه الهيكلي؛ حيث تعبر عن أهم مضامينه الخاصة، وتشير إشارة مجملة إلى المنهج المتبع في درس موضوعه. يقول ابن الصلاح: "ليس بالأحكام الشرعية افتقار إلى المنطق أصلا، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لاسيما من خدم نظريات العلوم الشرعية"(
[9]).
فهناك إذًا تصور ما لمنهجية المنطق في العقل الفقهي لابن الصلاح توضحه النقاط التالية:
1 - المنطق ليس منهجا للتعامل مع النص الديني نقلا ورواية ولا استنباطا للمعاني والأحكام، فقد "تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة" – كما يقول ابن الصلاح في بقية نصه السابق.
2 - المنطق ليس منهجا لدراسة الطبيعة وظواهرها المتنوعة.
3 - المنطق لا يعدو أن يكون منهجا خاصا بالتفكير النظري الطليق من القيود (الفلسفة)، وهي في رأي ابن الصلاح غير مقبولة شرعا، فيكون المنطق بناء على هذا مرفوضا من الناحية الدينية والمنهجية على السواء.
فالمنطق – وفقا لهذه الاعتبارات – طريقة ومنهج للتفكير النظري الطليق وحده، وليس للعلوم كلها؛ أي أنه ليس منهجا للتفكير الديني المرتبط بنص، ولا منهجا لدراسة الواقع الحسي وقوانين الطبيعة، وقد لا يعدو أن يكون نظاما لغويا يعين على ترتيب الجمل والعبارات في صورة أقرب إلى الدقة.
ومع أن هذا كله ينبئ عن تشبع عقلي من ابن الصلاح بمفهوم المنهج، وأنه أحد مميزات كل علم، وأن الموضوع ليس وحده وجه التمايز بين علم وآخر – مع هذا كله، فليس لدى ابن الصلاح سند علمي كافٍ لرفضه الفلسفة عامة؛ إذ إنه اتكأ في هذا الموقف على التجربة اليونانية فيها، والفيلسوف ليس ملزما في كل الأحوال بآراء فلاسفة اليونان أو مواقفهم الفكرية، حيث إن التفكير النظري الطليق لا يعني قبول قول أحد بلا دليل، كما لا يعني رفض ما لا دليل عليه لدى شخص ما؛ لأن انتفاء الدليل المعين لا يعني انتفاء المدلول - كما ثبت لدى النُّظّار(
[10]) - بل يرفض العقل الفلسفي الحقيقي ما قطعت الأدلة ببطلانه فحسب، وأما ما جاء مقرونا بالدليل القاطع فلا سبيل إلى إنكاره؛ "لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض"([11]) – كما يقول النيسابوري في التفسير.
ج) ومهما يكن من وعي ابن الصلاح والسيرافي بالتمايز المنهجي بين العلوم، فإن ابن تيمية (ت 728هـ) الذي جاء بعدهما كان في حملته على المنطق أكثر إدراكا لهذا الأمر من سلفيه، أو لعله كان أكثر تفصيلا ووضوحا في التعبير عن هذا الموقف الفكري، فهو من جهة يتمسك بالدليل التاريخي الذي يشير إلى وجود الكثير من العلوم قبل وجود المنطق، ومن جهة ثانية يتمسك بالدليل الواقعي الذي يؤكد أن العلماء بمختلف تخصصاتهم (كالفقه والنحو والطب والحساب والصناعات) لا يستعملون الحدود والقواعد المنطقية(
[12]).
فالممارسة العلمية المتخصصة للفقيه والطبيب واللغوي والرياضي لا تحوجهم إلى استعمال المنطق واصطلاحاته، ولا القياس وأشكاله، وإن لم يمنع هذا من أن يجمع الطبيب والرياضي في ممارسته الثقافية العامة ثقافة فلسفية تُضاف إلى اختصاصه بالفقه أو الطب أو الهندسة، كما سيأتي بيانه.
ويرى ابن تيمية - مثل ابن الصلاح - خطأ خلط ألفاظ المنطقيين بالعلوم المختلفة، فيقول عن أبي حامد الغزالي (ت 505هـ) وأمثاله: "خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاء بها الرسل... بل وسائر العلوم كالطب والنحو وغير ذلك"(
[13]).
ومعنى هذا هو أن هذه الأمور المستعارة من المنطق دخيلة على العلوم التي خُلطت بها، والمنطق منهج للتفكير مقترح من قِبَل أرسطو، فإذا دخل في علم من العلوم زاحم منهجه، وربما عاقه عن أداء وظيفته في الكشف الصحيح ومن أقرب طريق عن القوانين العلمية، وهو ما حدث للعلوم الطبيعية في الممارسة الإسلامية - كما سيأتي أيضًا.
ويصل تميز ابن تيمية في هذه الناحية إلى قمته حين يرى أن مناهج العلوم ليست وضعية، بل هي فطرية؛ لأنها نابعة من طبيعة الموضوع المدروس، وأما المنطق فهو مقاييس وضعية مخالفة لصريح العقل؛ لذا فهو جدير بالرد(
[14]).
ولعل هذا مما لم يتنبه إليه حتى علماء المناهج المحدثون؛ حيث إن العلم هو الذي يفرض منهجه على الباحث فرضًا، والعالم لا يفرض على العلم شيئا من خارجه، وإنما يدرك طبيعة الموضوع المدروس، والسبيل المناسبة للبحث فيه من خلال هذه الطبيعة نفسها، ثم يطبق ذلك.
والمسألة هنا تتجاوز بكثير قول الباحثين المعاصرين في مناهج العلوم إن عالم المناهج لا يفرض على العالِم شيئا خاصا بالمنهج، ولكنه يسجل ما يقوله، ويضع احترازات تحول بينه وبين الانحراف عن التطبيق الدقيق للمنهج(
[15])، فقد تجاوز ابن تيمية هذا إلى القول بأن العلم نفسه يفرض منهجه على العالِم، وينبغي ألا يفرَض على العلم منهج من خارج طبيعته لا من المنطقيين ولا غيرهم.
لكن على الرغم من هذا الإدراك الإسلامي النظري والتطبيقي للتمايز المنهجي بين العلوم، فإن المتأخرين حين حصروا مبادئ كل علم لم يدركوا تماما موقع المنهج من هذه المبادئ، فحصروها فيما يلي: الحد، والموضوع، والواضع، والاسم، والمصدر الذي يستمد منه، والحكم الشرعي، والتصور، والمسائل، والفضيلة، والنسبة، فقال ناظمهم:
فـأول الأبـواب في المبـادي وتلك عشـرة على المـراد
الحد، والموضوع، ثم الواضع، والاسم، واستمدادُ، حكم الشارع،
تصـورُ، المسائـلُ، الفضيـلةُ، ونسبـةٌ فائـدةٌ جليلــة(
[16])
وليس هذا إلا تراجعا عن إدراك الأسلاف لهذا الجانب المهم في تاريخ العلم وتطوره، وإن كنا لابد أن نسلم بأن بعض هذه الجوانب العشرة هي من معالم المنهج في كل علم، فالاستمداد يشير إلى مصدر المعرفة في هذا العلم أو ذاك، فالفقه يكون استمداده من النصوص الشرعية وما يلحق بها من الإجماع والقياس وغيرهما، والفلسفة استمدادها من العقل الصرف غير المقيد بأي قيد، وعلم الكلام استمداده من العقل والنقل معا.
ومهما يكن من أمر، فقد حالت بعض العوامل دون تحقيق الجهود المنهجية لهؤلاء الفقهاء واللغويين الناقدين لمنطق اليونان وفلسفتهم، حالت بعض العوامل دون تحقيقها النتائجَ المرجوَّة منها في حقل العلوم التجريبية، على الرغم من إنجازهم الكبير. ولعل أهم هذه العوامل المعوِّقة يتمثل فيما يلي:
1 - لم يكن هؤلاء الناقدون تجريبيين أو ممارسين للعلوم الطبيعية بأي صورة من الصور، فلم يتح لهم لأجل هذا أن يؤثروا بآرائهم في واقع العلوم الطبيعية، وأصبحت المسألة مجرد خلاف على شرعية الفلسفة والمنطق لا على منهجية المنطق، وهي القضية الأصل والأخطر، حيث إن هؤلاء النقاد – خاصة ابن تيمية - لم يكن يعنيهم في الأساس أن يصدروا حكما بتحريم المنطق بقدر ما كان يشغلهم التأكيد على عدم جدوى هذا العلم الفلسفي، وعدم قدرته على معاونة العلماء في دراسة موضوعات علومهم.
2 – لم يكن الغرض الأساس من نقدهم للمنطق هو الحماية المنهجية للعلوم الطبيعية أو التجريبية، وإنما جاء هذا تابعا لرفضهم إدخال الأفكار المنطقية والفلسفية في العلوم الشرعية واللغوية؛ كعلم الكلام وأصول الفقه والنحو.
3 - وفيما يخص نقد ابن تيمية بالذات – وهو أشمل ما أنتجه المسلمون على الإطلاق في نقد المنطق الأرسطي – فقد أضر به انقسام الجبهة الفكرية للمسلمين بعده بين فريقين تنازعا الرأي في قيمة الأفكار الدينية التي تبناها هذا المفكر المهم، فمنهم من عده شيخَ الإسلام (كما هو حال تلاميذه وأشياعه من بعدهم وإلى الآن)، ومنهم من ضمه إلى المجسمة (كما هو حال الأشاعرة). ونستشعر اشتعال هذه المعركة بصورة قوية في كتب التراجم منذ وقت مبكر، كما هو الحال في كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي، و"طبقات الشافعية الكبرى" لتاج الدين السبكي، حيث كانت أحكامهما على الأشخاص والأفكار أثرا من آثار هذه المعركة المحتدمة.
لقد أدى الخصام الكلامي بين الشافعية الأشاعرة وبين التيميين إلى فشل جهود هائلة بذلها الأجلاء من علماء الفريقين في تقويم المناهج العلمية، فانشغل كل فريق بالآخر، وصار العلم ومناهجه ضحية سقطت في ضجيج هذه المعارك التي ما زالت قائمة إلى الآن - للأسف الشديد – على صفحات الكتب ومواقع شبكة المعلومات الدولية (إنترنت).
التجريبيون المسلمون والتمايز بين المناهج:
توصلت السطور السابقة إلى أن الفقهاء واللغويين المسلمين كانوا على وعي تام بالتمايز المنهجي بين العلوم، لكن الأهم من إدراك هؤلاء للتمايز المنهجي - بالنسبة لهذه الدراسة على الأقل - هو إدراك علماء التجريبيات المسلمين لهذا الأمر؛ لأن هؤلاء الأخيرين هم الذين قامت على أيديهم الحركة العلمية في حقل العلوم الطبيعية، وهو نفسه الحقل الذي تبحث هذه الدراسة في تأثره بالفلسفة اليونانية، فهل كان الأطباء والمهندسون والكيميائيون وسائر علماء الطبيعيات من المسلمين يدركون هذا التمايز المنهجي بين العلوم؟
والحق أن هناك زوايا نظرٍ مهمةً تتعلق بالموسوعية العلمية عند المسلمين تمهد لمعالجة هذه القضية كما يلي:
مثلت الموسوعية سمتا مميِّزا للكثير من علماء المسلمين، حتى قلّ فيهم من تخصص في علم واحد، فهذا فقيه ومتكلم وأصولي، وذاك مفسر ومحدث وفقيه، وذلك فيلسوف وطبيب ومهندس ...إلخ.
وقد تُفهَم هذه الموسوعية على أنها توسيع أفقي للمعرفة على حساب التعمق الرأسي فيها، إلا أن الموسوعيين من علماء المسلمين لم يكونوا مجرد ممارسين هواة لهذه العلوم، فقد بلغوا من إحاطتهم بها في كثير من الأحوال حدا صَعُب معه تحديد علم واحد منها باعتباره تخصص العالِم، فالطبري قيل عنه: إنه كان "رأسا في التفسير، إماما في الفقه والإجماع والاختلاف، علاّمة في التاريخ وأيام الناس"(
[17])، وابن رشد "كان يُفزَع إلى فتياه في الطب، كما يفزَع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية"([18])، وابن تيمية قالوا في ترجمته: إنه ما "تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له"([19]).
وينبغي أن نلاحظ هنا أن بعض التخصصات العلمية يمثل اجتماعها معا في عقل واحد تكاملا معرفيا جيدا؛ وذلك حين تكون هذه العلوم متكاملة في أهدافها، أو يمهد بعضها لبعض، كما هو الحال في الفقيه حين يكون محدّثا ومفسرا وأصوليا، والمفسر حين يكون لغويا له تعمق في علوم البلاغة، وعالم الفرائض حين يكون له إلمام جيد بالحساب... إلخ.
وفي مقابل هذا ثمة تخصصات علمية يؤثر بعضها في بعض بشكل سلبي حين تجتمع في عقل واحد(
[20])، خاصة في حال تقارب موضوعاتها واختلاف مناهجها، وعند وجود ارتباط تاريخي أو مصدري بين علم وآخر دون أن يكون ثمة رابط منهجي أو موضوعي يجمعهما؛ وذلك كما يتبين من المثالين التاليين:
أ) مثال الحالة الأولى تأثير الفلسفة في علم الكلام عند المسلمين؛ إذ إن عناية كل من المتكلم والفيلسوف بالوجود وكلياته أغرى المتأخرين من علماء الكلام بإدخال عدد كبير من المباحث الفلسفية في درسهم للعقيدة الإسلامية، والأمر في الحقيقة لا يعدو التشابه الشكلي بين موضوعَي المعرفة الفلسفية والمعرفة الكلامية.
ب) وأما الارتباط التاريخي والمصدري بين العلوم، فتمثل له العلاقة بين الفلسفة والطب(
[21])، فالطب نشأ كعلم في رحاب الفلسفة وعلى يد الفلاسفة، وانتشر مرتبطا بها، وجُلب معها إلى العالم الإسلامي من مصدر واحد هو التراث اليوناني في المقام الأول، فوقع الطب لأجل ذلك أسير الفكرة العتيقة الخاصة بأن الفلسفة "أم العلوم"، ولعلها من أكبر الأخطاء العلمية في التاريخ الإنساني، حيث إن هذه "الأمومة" الموهومة قد أضرت بالعلوم وأوقعتها في التبعية المنهجية للفلسفة، ومن هنا لم يكن في إمكانها أن تحقق التقدم على المستوى المأمول إلا بالانعتاق التام من الفلسفة([22]).
إضافة إلى ما سلف، فإن الموسوعية العلمية المشار إليها آنفا – بسبب عوامل تمثلها بنية العلوم من ناحية والتركيبة المعرفية للعقل الإسلامي حينئذ من ناحية أخرى – لم تكن تتحرك في خطوط حرة؛ بمعنى أن بعض العلوم لم يكن يلتقي مع علوم أخرى في عقل واحد إلا نادرا، فكما يقل أن نجد شاعرا فقيها اجتمعت فيه الإجادتان الفقهية والشعرية، فإننا لا نكاد نجد عالما اجتمع فيه العلم الطبيعي بسمته التجريبي - لا التثقيفي العام - مع العلوم الشرعية كالفقه أو التفسير أو الحديث، وإن وُجِد فلا يصل ذلك إلى أن يكون قوة مؤثرة في المسار الاجتماعي للعلم، إما لقلة من وقع لهم هذا، أو لضعف الحالة العلمية العامة لدى المتأخرين.
وهنا يأتي السؤال الجوهري في هذه الدراسة، وهو: إلى أي مدى شارك التجريبيون المسلمون في فك الارتباط بين الفلسفة وغيرها من العلوم؟
لقد اكتسبت الفلسفة اليونانية احتراما في أوساط كثير من المسلمين، وظلوا في تصورهم للعلوم - نتيجة لهذا وغيره - يربطون بين الفلسفة ومجموعة العلوم الطبيعية، وكان علماء الطبيعيات أنفسهم جزءا من هذه الأوساط، حتى يكاد يصدق على جميع علماء الطبيعيات من المسلمين أنهم فلاسفة أو قراء متعمقون للفلسفة. ولا ينطبق هذا الحكم حقيقة على ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي وابن رشد الحفيد وأضرابهم فقط، ولكنْ حتى على ابن الهيثم وابن زُهْر وابن يونس وابن النفيس وأمثالهم.
ونتيجة لهذا التداخل بين الفلسفة والعلوم القائمة على التجريب استخدم التجريبيون المسلمون في علومهم منهجا هجينا؛ يغلب عليه التجريب والاستقراء العلمي، ولكن تشوبه أفكار منتزعة من القياس الأرسطي. والمشكلة هنا تمثلت في اعتقاد هؤلاء التجريبيين كثيرا في أصل كلي سبق التوصل إليه، ويمكن أن تقاس عليه القضايا والمسائل العلمية، ويتجلى هذا - كما يبدو - في جانبين أساسين:
الأول: اعتبار المرجعية الثابتة لبعض الكتب القديمة في مختلف فروع العلم غير الديني واللغوي، وكأنها الكلي اليقيني الثابت الذي يقوم عليه القياس الأرسطي، بحيث لا يعتبرون العلم علما بدونها:
مثل كتب جالينوس وبقراط في الطب، وبطليموس في الفلك، وديسقوريدس في النبات والأعشاب، وإقليدس في الهندسة، وأرسطو في المنطق... إلخ. ومع أن هذا الاهتمام والتقدير لم يمنعهم من انتقاد بعض القضايا في هذه الكتب – كما هو موقف ابن الهيثم من أفكار بطليموس، وابن النفيس من أفكار جالينوس مثلا – إلا أنهم ظلوا عموما أسرى لهذه الكتب، بدلا من اعتبارها تراثا يفيد إلى مدى معين، ثم يتم تجاوزه إلى مرحلة تحتوي إنجاز الماضي، وتتقدم بالعلم خطوات أكثر إلى الأمام.
ولا شك أن هذا الموقف من المصادر العلمية اليونانية يمثل قيدا على الإبداع، ويعوق الانطلاق العلمي الواسع تحت وطأة هذه الثوابت الموهومة.
ويظهر هذا الأمر على سبيل المثال خلال وصية قدمها أحد أطباء القرن السابع لأهل مهنته، وهو الحكيم رشيد الدين بن أبي أصيبعة – عم صاحب "عيون الأنباء" - حيث يقول كما نقل عنه ابن أخيه في سِفره الثمين: "اشتغِلْ بكلام المشهورين الجامعة أولاً، فإذا حصّلت الصناعة، فاشتغل بالكتب الجزئية من كلام كل قائل، عارياً عن محبة أو بغضة، ثم زنه بالقياس، وامتحنه - إن أمكن - بالتجربة، وحينئذ اقبل الصحيح‏"(
[23]). ومع روعة هذا الكلام وقيمته المنهجية الرفيعة، إلا أنه يبدو واضحا من بداية النص اتخاذ المصادر التقليدية الشهيرة للعلوم كثوابت يقل تفكير العالم في تعريضها للاختبار الذي يؤكد صوابها، أو يثبت خطأها.
ولعل الحكيم أراد ألا يجرّئ صغار الأطباء على أساطين الطب، فيقعوا فيما يُخشى من التساهل أو التقصير في أداء وظيفتهم. ولكن حتى هذا لا يعفيه من إعطاء قداسة وهمية لمصادر الطب الأولى، وكأن أعمال المتأخر مهما بلغت ما هي إلا شروح وحواش وتذييلات على إنجاز المتقدم!!
الجانب الثاني: الاعتقاد السائد بين التجريبيين المسلمين بأن العلم له صياغتان: واحدة تتعلق بالتطبيقات الجزئية، والثانية تمثل القواعد الكلية التي تقاس عليها الجزئيات:
حتى ألّف ابن رشد كتابا في الطب عنونه بـ "الكليات" أورد في آخره عبارة تلخص مراده منه فقال: "هذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجز ما أمكننا وأبينه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء عرض عرض من الأعراض الداخلة على عضو عضو من الأعضاء، وهذا وإن لم يكن ضرورياً لأنه منطو بالقوة فيما سلف من الأقاويل الكلية، ففيه تتميم ما وارتياض؛ لأنا ننزل فيها إلى علاجات الأمراض بحسب عضو عضو، وهي الطريقة التي سلكها أصحاب الكنانيش، حتى نجمع في أقاويلنا هذه إلى الأشياء الكلية الأمور الجزئية، فإن هذه الصناعة أحق صناعة ينزل فيها إلى الأمور الجزئية ما أمكن"(
[24])، وقبله قال محمد بن زكريا الرازي: "متى كان اقتصار الطبيب على التجارب دون القياس وقراءة الكتب خُذِل‏"([25]).
والحقيقة أن المشكلة هنا (في هذين النصين المرموقين) لا تتمثل في القول بالقاعدة الكلية أو القانون الذي تُقاس عليه الأمور الجزئية، فهذا لا يمكن أن يقوم العلم التجريبي بدونه، حيث إن مرحلة الاستقراء العلمي ينتج عنها استخراج القانون، ويمكن بعد ثبوت القانون أن نسير في طريق تنازلي من الكلي إلى الجزئي لاختبار القانون أو معرفة تطبيقاته، بعد أن كنا نتحرك في طريق تصاعدي من الاستقراء إلى القانون في مرحلة استكشاف القاعدة الكلية، وهذا يعني "أن كل قياس يستدعي استقراء سابقا، كما أن كل استقراء يحتاج إلى قياس (استنباط) في مرحلة التحقق من صدق المقدمات العامة أو الفروض التي ينتهي إليها"(
[26]).
أين تكمن المشكلة إذًا؟ المشكلة تكمن في الفصل بين المرحلتين بحيث لا يبدو أن القانون الذي تقاس عليه الجزئيات هو في أصله مجموع جزئيات حسية تعرضت للملاحظة والتجريب العلمي الدقيق، ومن هنا قد يمر على "القانون" الذي قال به السابقون زمن طويل دون أن يتعرض للاختبار الذي يؤكده أو ينفيه؛ إذ لم تطبَّق عليه مناهج العلم كما ينبغي منذ البدء، ولم يتعرض للاختبار الكافي فيما بعد.
ومن هذا المنظور يمكن أن نفسر الكثير من الأخطاء العلمية التي ورثها المسلمون عن اليونان أو غيرهم من الأمم السابقة، سواء تركوها بدون تصحيح حتى صوّبها العلم الحديث (مثل القول بالأخلاط الأربعة، وخلق الديدان من الطين بلا تكاثر)، أو بقيت زمنا على حالها حتى أتيح لها العقل العلمي المسلم النابغة الذي صححها، كما هو الحال في الأفكار التصحيحية لابن الهيثم في البصريات وابن الشاطر في الفلك وابن النفيس في الطب.
ويبدو أن التجديد والتصحيح العلمي في هذه الأحوال كان مصحوبا بشيء من التهيب لمخالفة ما اعتاد عليه الناس زمنا طويلا، على الرغم من خطئه، فهذا أبو سهل المسيحي أستاذ ابن سينا يقول عن تجديده لبعض آراء السابقين في الطب: "ليس يعرف فضيلة ما أوردناه على ما أوردوا (أي القدماء) إلا من قابل بين كلامنا هذا وكلامهم مع دراية وإنصاف منه‏"(
[27]).
مهما يكن، فإن القول بعموم المنطق منهجيا أو كونه مرحلة تمهيدية لكل منهج – هذا الرأي الذي سجله الغزالي وتابعه عليه آخرون - لم يتجاوز كونه فكرة نظرية غير قابلة للتطبيق، فالثقة التي أبداها البعض في المنطق والفلسفة أحيانا كشأن أكثر التجريبيين لم تعن أن يهجروا المنهج المناسب لكل علم، وإن كانت الموسوعية العلمية قد أحدثت تلقيحا منهجيا بين الفلسفة والعلوم الطبيعية في الممارسة الإسلامية لها.
وهذا يعني في المحصلة العامة أن علماء المسلمين - فقهاء ولغويين وتجريبيين - قد أدركوا التمايز المنهجي بين العلوم على مستوى النظر والممارسة، إلا أن علماء الطبيعيات خاصة شابت منهجهم في الحالين بعض الآثار المنطقية المتخلفة عن نظرهم الطويل والعميق في التراث الفلسفي لليونان، أو وصولِ العلوم إليهم مخلوطة بالفلسفة أصلا، مما أدى إلى شيء من تعويق التقدم الإسلامي في مجال العلوم التجريبية إلى رحاب أوسع مما تحقق بالفعل.
ولست أقصد بهذا أن العامل الوحيد الذي أثر في هذا المنهج هو الفلسفة اليونانية؛ إذ إن هذه نظرة مبتسرة وأحادية، ولكن أضيفت إلى ذلك عوامل أخرى من خارج العلم نفسه - تنتمي إلى حقل السياسة وغيره - أدت إلى هذا، إلا أن أخطر عامل منهجي أثر في مسار العلم التجريبي في العالم الإسلامي هو هذا التأثر بالفلسفة والمنطق.
ولكن ما الذي أدى بالفلسفة اليونانية نفسها إلى إحداث هذا التأثير في العلم التجريبي عند المسلمين؟
يرجع هذا الأمر – فيما يبدو لي – إلى طبيعة هذه الفلسفة وطبيعة المعرفة اليونانية عامة؛ أعني أن خصائص الفكر اليوناني هي التي أدت إلى هذا، كما أن منهج العلم التجريبي نفسه جاء من اليونان متلبسًا بالفلسفة ونهجها، بل جاء مغلوبا لها – إن صحت العبارة – وقام المسلمون بتخليص هذا المنهج - خاصة في الممارسة العملية للعلوم – من كثير من الآثار الفلسفية.
والحقيقة أن المسألة برمتها ترجع إلى معركة خفية عاشها العِلْم الإسلامي بين نهجين من التفكير: أحدهما النهج اليوناني بسمته الذي يغلّب الفكر الكلي النظري على المعرفة الحسية ومعرفة الوحي، والنهج الإسلامي بسمته المتوازن تجاه مصادر المعرفة المختلفة عقلية وحسية وسماوية، وسأحاول فيما يلي بيان أبرز سمات هذين النهجين.
السمت العام للفكر الفلسفي اليوناني:
جاءت ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية نتيجة من نتائج الاحتكاك الإسلامي الباكر بالأمم والثقافات الأخرى، وإن كانت قد نابت عن اليونانيين في حمل ثقافتهم حينئذ أمم - وأحيانا لغات - أخرى، حيث اختفت اليونان كأمة فاعلة وبسرعة كبيرة، وبقيت ثقافتها ذات وجود قوي ومستمر في أغلب فترات التاريخ منذ نشأت وإلى الآن.
وعلى الرغم من التقلب والانتقال الكثير الذي تعرضت له الفلسفة اليونانية منذ إنتاجها في مدن أوروبا الجنوبية وجزرها، إلا أنها بقيت محتفظة بسمتها وخصائصها الأساسية التي وجهت تأثيرها وجهة معينة؛ حتى لاحظ كثير من الباحثين – كما يقول هف – "أن الفكر اليوناني أينما ساد وجَّه الإنسان وقدراته نحو أشد الاتجاهات عقلانية"(
[28]).
ولعل أول وأهم ما امتازت به المعرفة اليونانية عامة هو التعظيم من قيمة الفكر النظري الكلي، والتقليل من شأن الفكر العملي الجزئي أو الحسي، بل إنكاره في بعض الأحيان، فقد عرف الفكر اليوناني كل مصادر المعرفة وأنواعها؛ أعني الحسي منها والعقلي والإلهامي(
[29])، ولكن المشكلة تمثلت لديهم في التقدير أو التحديد الصحيح لقيمة كل مصدر من مصادر هذه المعرفة، أو تحقيق التوازن النسبي فيما بينها، ونلمس في هذا الصدد عدة مواقف للمفكرين الإغريق كما يلي:
الأول: موقف فكري يلتزم جانب الشك والنفي للمعرفة بكل أصنافها، حسية أو عقلية، وهو موقف الشكاك السوفسطائيين المشهور.
الموقف الثاني: موقف يقدس العقل وأحكامه، ويكاد يلغي الحس وأحكامه مستندًا إلى بعض المغالطات العقلية، ويتمثل هذا بصورة صارخة في آراء الإيليين الفلسفية، حيث نراهم ينكرون الأشياء المحسوسة التي يدركها كل الناس بحواسهم، ولا يختلفون في إثباتها، بل يؤكد إدراكُ بعضهم لها صحةَ إدراك البعض الآخر. فبارمنيدس (ق 5 ق.م) في فكرته عن العالم يقول بالوحدة والثبات، وينكر الكثرة والتغير، ويستبعد "التجربة الحسية بوصفها خدّاعة"(
[30]). وأما تلميذه زينون (ت 430 ق.م) فقد كان أكثر منه إيغالا في الدفاع عن هذه الأفكار، فأنكر - مثلا – الحركة، التي يدركها الحس البشري كيقين واقع - في أغلب الأحيان على الأقل - مستندا إلى حجج متهافتة، منها: أن الجسم لكي يقطع مسافة سباق ما فلابد أن يقطع أولا نصفها، ثم نصف نصفها، ثم نصف نصف نصفها إلى ما لا نهاية له، وما كان بهذه الصفة فلا يمكن قطعه، فالحركة لأجل هذا ممتنعة في رأيه([31]).
وغير ذلك من المغالطات الجدلية المشهورة عن زينون، مما يعَد انتصارًا للمعرفة التي مصدرها العقل النظري المجرد أو المنعزل عن الظواهر محل الإدراك، وإضعافًا شديدًا للمعرفة الحسية، دون التصريح بإلغائها.
وهذا الموقف يعني أن يرهن الإنسان يقينه الحسي لحسابات عقلية تنطوي على أخطاء في الفهم؛ حيث اعتبر أن المكان من الكم المنفصل، إلا أنه في حقيقته من الكم المتصل؛ أي أنه يقبل التقسيم، إلا أنه باعتباره كما واحدا ليس مقسَّما بالفعل(
[32]). كما أننا نرى بالفعل أن الأجسام المتحركة تقطع مسافات، وتغير مواضعها، وتضيق الشُّقة بينها وبين غيرها أو تتسع، ولو لم تفعل لظلت على مسافات ثابتة بعضها من بعض، وهذا ما لم يقل به زينون نفسه ولا غيره.
الموقف الثالث: يرى أصحابه أن الحس وعالمه ما هو إلا خيالات لعالم متكامل ومثالي، وهذا هو موقف أفلاطون(
[33]) ومن تمذهبوا بفكره، ويختلف هذا الموقف عن موقف الإيليين السابق بتحويل أفلاطون الواقع إلى خيال خالص ينخدع الحس به، ويحسبه حقيقة وما هو بالحقيقة. ويبدو هذا السمت في فكر أفلاطون حتى في محاورته الشهيرة "طيماوس"، التي هوَّل بعضهم فاعتبرها أهم مصدر للتوجه العقلاني في أوروبا إبان عصر النهضة([34])، واعتبرها "أكثر العلماء المؤلَّف العلمي الرئيسي بين آثاره" – كما يقول جورج سارتون الذي يوجه انتقادات شديدة لأفلاطون وفكره، ويقول عن كتاب "طيماوس": "فيه يعالج العلم لا بمعناه الضيق المحدود، بل باعتباره بحثا في الكون. إنه دراسة للعالم في وحدته ونظامه وجماله"، ثم يعقب قائلا: "العلم بالمعنى الذي نفهمه دراسةٌ لظواهر حسية محددة، والفضل في أنه شق طريقه وآتى أكله راجع إلى ما يقتضيه من تثبت وتأمل. أما الكونيات فعلى عكس هذا موضوعها الكون كله؛ ومن أجل هذا يعتبر الباحث فيها فيلسوفا ميتافيزيقيا لا رجل علم، بصرف النظر عن العناصر العلمية التي تدخل في بحثه. ويصدق هذا بوجه خاص على محاورة طيماوس التي ظل كثير من الشراح آلافا من السنين يعدونها أوج الحكمة الأفلاطونية، والتي لا يملك رجال العلم الحديث إلا أن يعتبروها أثرا تذكاريا يشهد بافتقار أفلاطون إلى الحكمة والتبصر"([35]).
ولو اجتنبنا الموقف السلبي لسارتون من أفلاطون وآرائه، فلن يعوزنا شيء - غير ما سبق من إشارات محايدة - نؤكد به أن الرجل الذي اشتهر في التاريخ بفكره المثالي لم يمتلك رؤية متوازنة تحدد الدور المنوط بكل واحد من مصادر المعرفة حسا وعقلا ووحيا، بل كان في مجمل أفكاره أقرب إلى الخيال الشعري لا التفكير العقلي.
الموقف الرابع: يعترف بالمعرفة عقلية وحسية، ولكنه يعد الأولى هي المعرفة الحقيقية التي يُلتَمس بها العلم، يقول أرسطو الممثل الرئيس لهذا الموقف: "لا سبيل إلى قبول العلم بالحس (أو بعبارة أكثر صراحة كما في الترجمة الإنجليزية: "المعرفة العلمية بواسطة الحس غير ممكنة")(
[36])... وذلك أن الحس قد يلزم أن يكون للأوحاد والأشياء الجزئية، وأما العلم فإنما هو العلم لشيء كلي... والكلي هو أشرف من قبل أنه ينبئ ويعرّف السبب"([37]). وحين نجمع بين هذا النص وبين مجمل جهود أرسطو العلمية سنعرف أنه لا ينكر المعرفة الحسية تماما، إلا أنه – على أية حال - يؤخر رتبتها حتى تصير مجرد تمهيد "منسيّ" للمعرفة العقلية الكلية من ناحية، ومطلوباتٍ مجهولة تتوسل بالمعرفة الكلية حتى تثبتها أو تنفيها - من ناحية ثانية - وترتب على ذلك أن صار العلم النظري أو الكلي في رأي أرسطو أشرف من غيره – كما يصرح النص السابق.
وهكذا بدا أن التوجه الفلسفي النظري قد سيطر على الفكر والعلم في اليونان بشكل عام(
[38])، حتى بدا أن هذا هو السمت الغالب على الحضارة الإغريقية كلها. وكان لهذا - بلا شك - تأثيره الخطير على التفكير وعلى الممارسات المباشرة في حل مشكلات الحياة على السواء.
والأمر قد لا يتوقف عند حدود ما قالته إحدى الباحثات من أنه "بدلا من أن يحاول كتاب اليوتوبيا (وأولهم أفلاطون) اكتشاف قوانين الطبيعة، فضلوا أن يخترعوها أو يعثروا عليها في "سجلات الحكمة القديمة"(
[39])، بل وُلدت في ظل هذا الفكر حضارة بلغت من القوة مدى كبيرا، إلا أنها ماتت سياسيا بسرعة غير متوقعة؛ لما يبدو من أنها لم تكن تملك الاستجابات المناسبة للواقع الحياتي المحسوس والمتغير.
ولعله من حق مؤرخي العلم بعد ذلك أن يقولوا عن الإغريق إنهم: "تقيدوا دائماً بسيطرة الآراء النظرية، ولم يبدأ البحث العلمي الحق القائم على الملاحظة والتجربة إلا عند العرب (المسلمين)"(
[40])؛ حيث سيطر الفكر الكلي النظري على الإغريق، في حين مال المسلمون إلى التجربة فيما يسمَّى بالعلوم التجريبية، وأعطوا لكل مصدر من مصادر المعرفة حقه من الاعتبار والتقدير في أغلب الأحيان.
الموقف الإسلامي العام من وسائل المعرفة:
قد لا يكون هناك كبير اختلاف بين المجتمعات الإنسانية في الاعتراف بمصادر المعرفة وحصرها في الحس والعقل والوحي أو الإلهام، إلا أن الاختلاف الكبير يظهر في مدى تحقيق التوازن النسبي بين هذه المصادر في التوصل إلى المعرفة، وهذا التوازن هو الذي تأرجح الفكر والعلم الإسلاميان بينه وبين النهج اليوناني السابق، فاقترب بعض الإسلاميين من تحقيق هذا التوازن كثيرا، وابتعد البعض الآخر عنه، وارتبطت المسألة بثقافة العالِم المسلم، حيث كانت الفلسفة اليونانية تميل بهم إلى عقلانية النهج اليوناني، في حين كان يميل بهم إلى النهج الآخر خدمة "نظريات العلوم الشرعية"(
[41]) – حسب تسمية ابن الصلاح – وقد التقى النهجان بنسب مختلفة لكل منهما في بعض الشرائح العلمية الإسلامية، كما هو حال علماء الطبيعيات.
والحقيقة أن الإسلام نفسه يمتاز – كما استنتج كبار المفكرين المسلمين المعاصرين مثل محمد عبده ومحمد إقبال وشكيب أرسلان وعلي عزت بيجوفيتش وغيرهم بعد خبرة طويلة ومعرفة عميقة بمعطيات الحضارتين الإسلامية والغربية – يمتاز بتحقيق توازنات متعددة في مجالي الفكر والممارسة، فقد وازن بين الدنيا والآخرة، ووازن بين الحس والعقل، وبين الفعل الخارجي وضمير الإنسان، وبين القول والعمل. وهذه التوازنات كلها تضمن عند تحققها الفاعلية الصحيحة بين أقطاب الحياة؛ إذ إن ترجيح أحد الطرفين يضعف دور الآخر في مساعدة الإنسان على أداء رسالته الحياتية.
هذا، وقد اقترب الفكر الإسلامي منذ بدايته من هذه الصورة، وابتعد أحيانا حسب العوامل الثقافية والاجتماعية المشاركة في صنع الواقع الإسلامي في كل مرحلة. واعتنى الكثير من السلمين في هذه الناحية ببيان مصادر المعرفة وتحديد قيمتها، وحدد لنا الزركشي الرؤية الغالبة على المسلمين في هذا الجانب بقوله: "طرق العلم على المشهور محصورة في ثلاثة: عقل، وسمع، وحس، وعَنَوا بالحس علوم الإدراكات والعادات"(
[42])؛ أي ما تدركه الحواس من الحالات العينية، وما تكوّنه من خبرة عادية حول المحسوسات.
وفي تحديد قيمة كل واحد من مصادر المعرفة هذه في القيام بالعملية المعرفية، ذهب أبو الحسن الأشعري – حسب ما يسجله الزركشي - إلى أن ما يُدرَك بالحواس مقدم على ما يدرَك بنظر العقل، وذهب القلانسي إلى عكس ذلك اعتمادا على أن الآفات تعرض للحواس أكثر مما تعرض للعقل. واعترض ابن القشيري على الرأيين كليهما، ورأى أن "العلوم ضرورية لا تقديم ولا تأخير. نعم قد يطول الطريق ويقصر فيتربت الأمر لذلك، وأما العلوم في أنفسها فلا ترتب فيها"(
[43]).
ويبدو لي أنه لا خلاف بين رأيي الأشعري والقلانسي في الأصل، حيث إن المعرفة الحسية مقدمة على المعرفة العقلية من حيث الرتبة والأسبقية، في حين أن المعرفة العقلية هي المقدمة من حيث القيمة، وهو ما يؤدي بنا إلى رأي ابن القشيري الأخير.
وفي التحقق من صحة المعرفة العقلية قرروا أن "الأحكام العقلية إنما تثبت بدليل عقلي"(
[44])، وأما ما يأتي من المعرفة عن طريق الوحي أو السمع فكما يقول القفال الشاشي: "معرفة حقيقة صوابه وخطئه تُدرَك بالاستدلال"([45])، وأما ناتج الحس فيتم اختباره بتكرار إيقاع الحس عليه كما في العلوم التجريبية، وهذا ما أوضحه نصير الدين الطوسي وزاد عليه حين قال: "المجربات تحتاج إلى أمرين أحدهما المشاهدة المتكررة، والثاني القياس الخفي، وذلك القياس هو أن يعلم أن الوقوع المتكرر على نهج واحد لا يكون اتفاقياً، فإذن هو إنما يستند إلى سبب"([46]).
وموقع المعرفة الحسية هنا لا يجعلها كل شيء، وفي الوقت نفسه لا ينكر أهميتها وضروريتها، فتكاد تشبه - قياسا إلى مكونات اللغة - حروف الهجاء التي تتكون منها الكلمات ثم الجمل من حيث كونها مرحلة ضرورية لما يليها، وإن لم تكن كل شيء.
وهذا المعنى أوضحته نصوص كثيرة جدا في مصادر الإسلاميين، منها قول العبدري في شرح المستصفى: "أصل العلوم العقلية كلها الحواس، فإذا قوي الحس على إدراك أمر مما اتضحت فصوله الذاتية عند العقل فأدرك حقيقة ماهيته، ساغ له حده، وإذا ضعف الحس عن إدراك شيء مما خفيتْ فصوله الذاتية عن العقل، فلم يدركْ حقيقته وماهيته لم يقدرْ على حده، ومنْ ذلك الروائح والطعوم؛ لما ضعف الحس عن إدْراكها عَسُر حدها"(
[47])، ويقول السيوطي أيضًا: "العقل مستفاد من الحس، فالمحسوس أصل للمعقول"([48]). والطريف أن المثال الأخير جاء في سياق الحديث عن أنواع التشبيه لدى البلاغيين باعتبار طرفيه حسا وعقلا، حيث منعوا من أن يكون المشبه حسيا والمشبه به عقليا للسبب الذي تضمنته عبارة السيوطي.
كما أن المعرفة الحسية لا قيمة لها وحدها؛ لأنه لابد من العقل ليطرد الحكم على الحالات المتشابهة، أو يستخرج نتيجة الاستقراء الكلية؛ إذ إن "الأحكام الحسية جميعها جزئية؛ فإن الحس لا يفيد إلا أن هذه النار حارة، وأما الحكم بأن كل نار حارة، فحكم عقلي استفاده العقل من الإحساس بجزئيات ذلك الحكم"(
[49]).
وعلى العموم كانت الغلبة في الفكر الإسلامي لهذه الرؤية على غيرها؛ نعم لا نعدم ميلا صوفيا أكثر إلى جانب المعرفة الذوقية، أو ميلا فلسفيا أكثر ناحيةَ المعرفة العقلية، وميلا نصيا أكثر من جماعات الحشويين والمجسِّمة أشبهَ بترجيح الحس على غيره - إلا أن هذا كله جاء على هامش الثقافة الإسلامية، فلا كل الصوفية تطرفوا في ذوقيتهم، ولا أكثر الفلاسفة غالوا في عقلانيتهم، ولكن بعض وبعض.
وهذا شاهد يأتينا من قلم أحد أهم الفلاسفة المسلمين على الإطلاق، ألا وهو الشيخ الرئيس ابن سينا الذي يقول: "انفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف"(
[50])، ويضع شروطا دقيقة لكي تصدق نتيجة اختبار الدواء أو تجربته كما يلي:
1 – أن يخلو الدواء من عارض كحرارة أو برودة قد تغير تأثيره.
2 – أن تكون التجربة على علة مفردة؛ لأن تعدد العلل قد يحوج إلى تعدد الدواء، وبلغة ابن سينا نفسه: "فإنها إن كانت علة مركبة وفيها أمران يقتضيان علاجين متضادين، فجُرِّب عليهما الدواء فنفع، لم يدر السبب في ذلك بالحقيقة".
3 – أن يُجرَّب الدواء في تأثيراته المختلفة، ويعرف أي تأثيراته بالذات وأيها بالعرض، حتى نربط بين الدواء وبين استعماله في علاج علة محددة.
4 – "أن تكون القوة في الدواء مقابَلاً بها ما يساويها من قوة العلّة... فيجب أن يجرب أولاً على الأضعف، ويتدرج يسيرا يسيراً حتى تعلم قوة الدواء ولا يَشْكُل"... إلخ(
[51]).
فهذا الفيلسوف العقلاني لا يكتفي باستخدام التجربة في الطب، ولكنه يستغرق في مَنْهَجة هذا العلم التجريبي، وتحديد القواعد التي يسلكها الحس والعقل في اختبار تأثير الدواء؛ تمهيدا لاستعماله في علاج الأمراض.
وثمة شاهد آخر من شواهد كثيرة تأتي من مجال التصوف تؤكد أن الذوق والمعرفة الصوفيين لا ينفيان وجود الحس، حتى في حال الفناء نفسه، وهو من أشد مواقف الصوفي بعدا عن الحس، يقول القشيري: "إذا قيل: فني عن نفسه؛ وعن الخلق، فنفسه موجودة، والخلق موجودون. ولكنه لا علم له بهم ولا به، ولا إحساس، ولا خبر، فتكون نفسه موجودة، والخلق موجودين، ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين، غير محس بنفسه وبالخلق"(
[52]). كما أن مقام التوكل – وهو من أعمال القلب - لا يتنافى عندهم مع الأخذ بالأسباب المادية، قال أبو تراب النخشبي: "إذا رأيت الصوفى سافر بلا ركوة فاعلم أنه عزم على ترك الصلاة"([53]).
وأكثر من ذلك لم يتجاوز هذا الفريق من المفكرين المسلمين حين تأثر بفكرة أفلاطون عن عالم المثال - لم يتجاوزوا الواقع، وإن كانوا قد أضافوا إليه هذا العالمَ الثالث، فقد فهموا أن هناك "عالما متوسطا بين عالمي الأجسام والأرواح سموه عالم المثال، وقالوا هو ألطف من عالم الأجسام وأكثف من عالم الأرواح"(
[54])، ووصفوه بأنه عالَم "غير عنصري تتمثل فيه المعاني بأجسام مناسبة لها في الصفة، وتتحقق هنالك الأشياء قبل وجودها في الأرض نحوا من التحقق"([55]).
فيبدو عالم المثل الصوفي هنا مختلفا في علاقته بالحس عن عالم المثل الأفلاطوني تماما، حيث إن هذا المفهوم الصوفي لم يزدرِ الحس، ولم ينفِ وجوده، ولم يصفه بأنه خيال كما يقدم أفلاطون في فكرته الشهيرة.
ونخلص من هذا جملة إلى أن منهج اليونان في التفكير كان يغالب في العالم الإسلامي منهجا آخر أشد أصالة وأكثر تحقيقا للتوازن النسبي بين مصادر المعرفة، وكانت الكفة تختلف رجحانا من بيئة علمية إلى أخرى، بل من مرحلة زمنية إلى أخرى، ففي حين كان الفلاسفة الخلص الذين لم يمارسوا العلوم التجريبية ممارسة حقيقية أكثر تلبسا بالمنهج اليوناني، كان زملاؤهم ممن اجتمع فيهم العلم بالفلسفة والممارسة التجريبية للعلوم الطبيعية ودربة في العلوم الشرعية أكثر انفصالا عن منهج التفكير اليوناني.
وأيضا كما كان للمنهج اليوناني تأثيره على علماء الدين واللغة الذين اعتقدوا صحة المنطق، فقد كان أصحابهم ممن انتقدوا هذه العلوم أكثر بعدا عن تأثير فكر اليونان عليهم، وإن لم تخل المسألة في كل الأحوال من تأثر ما.
وعلى كل حال، فإن هذا باب واسع من أبواب المقارنة الثرية بين شخصيات وشرائح فكرية وعلمية متنوعة ظهرت في البيئة الإسلامية، وبدا فيها التلاقح الفكري والمنهجي الناشئ من تلاقي الثقافات وتقاطعها في هذه العقول، ومن ذلك: المقارنة بين فلسفة ابن سينا وفلسفة الفارابي، حيث يبدو الشيخ الرئيس بشكل عام أكثر تحررا من أفكار الإغريق، وأكثر معقولية في الاختيار منها، وأشجع من صاحبه في توجيه النقد إليها.
وأحسب أن مشروع ابن سينا في تجديد المنطق بعيدا عما اعتنقه أرسطو فيه، كان من هذا القبيل، إلا أن الرجل أعجزته الوسيلة، ولم تسعفه المعرفة الكافية، وربما النضج غير الكامل لعلم أصول الفقه في هذا الزمن؛ حتى يقدم له مفاتيح التجديد.
مشكلة الانقطاع:
قد يُفهَم من النتيجة الأخيرة والتي سبق تقريرها في عدة مواضع أن هذه الدراسة تقلل أو تشكك في قيمة الإنجاز الإسلامي في مجال العلم التجريبي بسبب اختلاطه بالفلسفة وتأثره بالمنطق، إلا أن الحقائق - كما يبدو لي - لا ينبغي أن تضيع بين إنكار النفاة ومبالغة المثبتين؛ تلك الثنائية التي تعرّض لها الإنجاز الإسلامي في حقل المنهج العلمي وغيره من الحقول الثقافية والحضارية، فوقعنا بين غاضٍّ من قيمة هذا الإنجاز، ومبالغٍ في تقديره، وأحسب أن الحق يقع في منتصف طريق بين هذين الطرفين، وسأوضح ذلك بالنسبة للعلوم التجريبية فيما يلي:
لم يكن المسلمون ولا اليونان هم أول من استخدم التجريب في العلوم، بل سبقتهما إلى ذلك أمم أخرى منذ فجر التاريخ، وفي هذا يحكي محمد بن إسحاق النديم في "الفهرست" أن امرأة مصرية اجتمعت عليها الأدواء في قديم الزمان حتى كادت ترديها، إلا أنها اشتهت نبتة تُسمَّى "الراسَن"(
[56]) فتناولتها، فأحست بالعافية في بدنها حتى شفيت بمرة، وعرف الناس أن لخصائص الأشياء تأثيرا، فاستعملوا "التجربة على سائر الأوجاع"([57])؛ أي أنهم راحوا يجربون الأدوية على الأمراض التي تعتري أجسادهم، فإن ثبت تأثيرها إيجابيا تبادلوا هذه المعرفة الطبية القائمة على التجريب.
وإن كانت هذه الحكاية محتملة للصحة أو الاختلاق، ويصعب الاتكاء عليها وحدها في تقرير حقيقة كبيرة كهذه، فإن من المحْدثين من يقدم تأييدا قويا لمعرفة الإنسان بالتجربة منذ وقت مبكر، فيقول كلود برنارد: "أعتقد أن كبار المجرّبين قد ظهروا قبل أن توجد القواعد العامة لفن التجريب، كما أن كبار الخطباء سبقوا وضع الرسائل في الخطابة"(
[58]).
بل لعل الجانب الذي أشار إليه ابن تيمية فيما سبق من فطرية المنهج العلمي عامة، يلفتنا إلى أن الإنسان قد مارس هذا المنهج بصورة فطرية من قديم، وإن لم يكن قد التفت – في ظل ظروف ضعف الخبرة البشرية بالعلوم - إلى التفريق بين الممارسة العملية والإدراك النظري للوسيلة العلمية التي وظفتها الممارسة.
لكن على الرغم من هذا الاهتمام العام والمعرفة الإنسانية القديمة بالأسلوب التجريبي في العلوم، فإن علماء المسلمين قد أسهموا بالنصيب الأكبر في تثبيت ما سمي فيما بعد بالمنهج التجريبي الاستقرائي كأسلوب أوحد لدراسة العلوم الطبيعية، وكانوا يفعلون ذلك عن وعي وإدراك تام، واستبعدوا الكثير من الطرق البحثية غير الصحيحة؛ كالتخمين والسحر والشعوذة والمفاهيم الموروثة بلا دليل عليها، وإن كانت قد بقيت في ممارستهم للمنهج بعض العناصر الفلسفية التي سبق إيضاحها، وبعض العناصر الخرافية عند بعضهم، خاصة في مجالي الكيمياء والفلك.
وباختصار، فإن المنهج – تجريبيا كان أو غير تجريبي - كامن في الموضوع المدروس وتابع لطبيعته، وقد كشف القدماء من المصريين واليونانيين وغيرهم جزءا ضئيلا من المنهج التجريبي الكامن في المادة، وطبقوه في بعض الأحيان بصورة فريدة، إلى أن جاءت المرحلة الحضارية للمسلمين (من القرن السادس الميلادي إلى القرن الخامس عشر)، فجلَّوا هذا المنهج، وكشفوا جوانبه، وطبقوه في حالات لا تُحصَى، سوى ما اعتراه من صبغة فلسفية أثرت على التطبيق، أو شاركت في التأثير عليه بصورة سلبية.
لقد شهد الكثيرون بأن "التراث العلمي العربي (الإسلامي) كان أغنى بالأساليب التجريبية من أي تراث آخر؛ سواء أكان أوروبيا أم آسيويا"(
[59])، وأن ذلك وجد من زمن مبكر؛ "فكيمياء جابر (بن حيان مثلا) تمتاز بالميل إلى الناحية التجريبية، واستبعاد الخوارق، والاتجاه العلمي العقلي"([60])، وقد بقي هذا الحال فترة طويلة من عمر الحضارة الإسلامية، إلى أن جرى ما جرى من التراجع الحضاري الإسلامي عموما.
ومن جهة ثانية نجح الغرب الحديث في تخليص المنهج العلمي من تأثير الفلسفة وتحليقاتها البعيدة تماما، وظهر العقل العلمي لأول مرة بريئا من الثقافة الفلسفية بشكل كامل، وبعد أن كان العقل يفلسف العلم، حاول أخيرا أن ينشئ فلسفة علمية، كما هو شأن برتراند رسل وغيره من فلاسفة الوضعية.
بل حاول العلم الغربي الحديث أن يضبط البحث في العلوم الإنسانية نفسها بضوابط دقيقة، مستعينا في ذلك بمعطيات العلم التجريبي؛ أي أنه أوغل في فرض سلطان المنهج التجريبي إلى أقصى حد، بعد أن كان مشوبا بعناصر فلسفية مع المسلمين الذين شكلوا شخصية هذا المنهج.
ويبدو أن الفرق بين المسلمين والغربيين المحْدثين في هذا الجانب، يرجع - في أحد جوانبه على الأقل - إلى اختلاف التجربة الإسلامية مع الفلسفة اليونانية عن التجربة الغربية الحديثة معها، ففي حين أن فريقا كبيرا من المسلمين انتقد هذه الفلسفة انتقادا شديدا، وفريقا آخر اطمأن إليها – خاصة فيما يتعلق بالمنطق – فبقيت عالقة بين الرفض والقبول، وأثرت في كلا الاتجاهين - فإن العقل الغربي الحديث استخدم هذه الفلسفة وسائر ما جاءه من المعرفة العلمية عن المسلمين في اكتشاف القيم التي تحقق الوجود الذاتي القوي للإنسان والمجتمع في مواجهة الاستبداد الديني والسياسي، فعرف قيمة العقل وقيمة التجريب في العلم، ثم انقلب يستعمل هذه القيم نفسها بشكل صارم في نقد الفلسفة اليونانية وسائر الآراء والأفكار وأنماط الحياة التي تعْرِض له، فكانت الفلسفة اليونانية بهذا أداة اكتشاف للقيم، ثم لم تنج هي نفسها في النهاية من أن تكون ضحية للعقل الغربي التجريبي الناقد، فقبل منها قليلا ورد أكثرها.
لكن، ما السبب الذي أدى إلى إنكار الكثير من الغربيين إلى الآن قيمة الإنجاز الإسلامي في مجال العلوم الطبيعية، بالرغم من إمكان معاينته في كتب التجريبيين المسلمين وإنجازاتهم العلمية؟
الحقيقة أن السبب الرئيس في هذا – إضافة إلى نقل بعض الغربيين عن بعض بدون تمحيص علمي - لا ينتمي إلى حقل العلم نفسه، ولكن إلى الظرف التاريخي الذي يعيشه المسلمون منذ عدة قرون، حيث حدث لهم انقطاع عن المشاركة الفاعلة في صنع الحضارة الإنسانية، أو صاروا على مَبْعدة من بؤرة التأثير في العالم. وإن كنا نرى منهم أفرادا أفذاذا في هذا الجانب، فهم لم يصلوا بعد إلى مستوى تمثيل الأمة بصورة تيار مؤثر في وجهات النظر العلمية السائدة في الحقول المعرفية المتصلة بالماضي.
إذًا هو الانقطاع أو الغياب الحضاري؛ فإن الإنسان قد يخدعه الواقع بضغوطه وحضوره أمام الحس، فيسهو عن الفهم والتقدير الدقيق للماضي، أو قد تخدعه القوة الحضارية القائمة لأمته، فيقلل من قيمة معاصريها الآخرين أو قيمة الماضي عموما، وهذا حدث حتى في الحالة الإسلامية، حين قارن ابن تيمية بين العطاء الحضاري الإسلامي وعطاء الأمم الأخرى، فرأى المسلمين أسلم عقلا وأتم فكرا، وأكثر قدرة على صناعة العلم والفكر من غيرهم، وقال: "فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال"(
[61]).
إلا أن ابن تيمية – على أية حال - لم يكن في هذه النظرة عنصريا مثلما هو حال بعض الكتاب الغربيين الذين حكمتهم الرؤية القاصرة، ورأوا أن المسلمين والشرقيين لم يُخلَقوا للتفكير والتفلسف، ولكن للتقليد وإعادة صياغة ما ينتجه الغرب، وأن ما أنتجه العرب من علم ليس لهم فيه إلا الاسم. وأشهر القائلين بهذا هو المستشرق الفرنسي إرنست رينان (ت 1823م)(
[62]).
لقد مثّل ضعف الواقع الإسلامي عاملا ضاغطا قلل من تقدير دورهم الحضاري في جوانب عدة، منها خدمتهم للمنهج العلمي، حيث راح الباحثون يدرسون هذه الجوانب وكأن أهلها اختفوا من الساحة، وصاروا صفحة مطوية من ماضي الإنسانية.
وفي ظل هذا الغياب ذهب باحث غربي معاصر (هو: توبي أ. هف) بحق إلى أن المسلمين والصينيين كانوا أقرب من الغرب إلى إنجاز العلم الحديث. إلا أن "هف" حين بحث في الأسباب التي أدت إلى سبق الغرب إلى هذا، تعامل بمنطق الحكم على الغائب، معتقدا أن العوامل التي عاقت المسلمين عن السبق إلى إنتاج العلم الحديث تتمثل فيما يلي:
أ) "كانت هناك أنماط مؤسسية وقوى ثقافية قابلة للتعيين في الإسلام في العصر الوسيط عرقلت تطور المجالات المستقلة من الخطاب والمشاركة، وشملت هذه القوى: هيمنة العائلة التقليدية الممتدة، وخليقة الكتمان في الأمور الفكرية، ومقاومة صياغة المعايير الشاملة العامة، والنزعة القوية في المعايير الشرعية نحو الخصوصية"(
[63])، كما منعت "هيمنة العائلة الممتدة... ظهور النقابات والروابط التي تربط المهنيين الذين لا تربطهم علاقات القربى أو المصالح الشخصية"([64]) – على حد قوله.
ب) الاجتهاد وتعدد الآراء الفقهية لدى المسلمين صار في رأيه معوقا لنشأة العلم الحديث، حيث فهم أن سيطرة الفردية في اختيار الموقف الفقهي أدى إلى عدم فهم الروح العلمية المتسمة بالجماعية والعموم، يقول: "قد يقال من زاوية أخرى إن الخليقة (ethos) النازعة نحو الخصوصية في العلاقات البشرية، وهي الخليقة التي دعمتها شريعة تميل هي الأخرى نحو الخصوصية، قد أعاقت نشوء معيار الشمولية العلمي"(
[65]).
ج) يرفض القول بأن الغزو الخارجي كان له دوره في إضعاف المسلمين عامة وجهودهم العلمية خاصة، فيقول: "إن هذا التفسير يغفل مجال التطور العلمي في الحضارة العربية الإسلامية... (و) يهمل الطبيعة الحقيقية للمؤسسات الثقافية العربية الإسلامية وأثرها النهائي في حرية الفكر والبحث العلمي"(
[66]).
د) "الهيئات والمؤسسات لا وجود لها في الشريعة الإسلامية"(
[67]).
وكأن وظيفة الشريعة هي أن تنشئ المؤسسات التي هي وظيفة اجتماعية يقوم بها المجتمع حين يشعر بحاجته إليها، وما أمرت الشريعة بإقامته من مؤسسات في المجتمع كالمسجد وظيفته الأولى عبادية، وعند مقارنته ببيت المال مثلا سنجد أن الأخير عبر عن حاجة حياتية في الأساس، ولم يستند إلى توجيه مباشر من النص.
لقد اندفع توبي أ. هف نحو هذه الأحكام المنقوصة بضغوط تمثلت في ضعف خبرته المباشرة بتاريخ المسلمين العلمي، كما أنه ربط ظواهر الواقع الإسلامي الداخلي بما آل إليه حال العلوم في العالم الإسلامي، وكأن هذه الظواهر مثلت سببا للتخلف والتراجع العلمي للمسلمين، في حين أنها تمثل صورة التراجع الإسلامي العام من جانبها الاجتماعي.
وحقيقة ليس هذا مجالا للمناقشة التفصيلية لآراء توبي أ. هف، لكن آراءه تكشف عن خضوع العقل في بعض الأحيان لأحكام بعدية تنظر إلى مآلات الصورة، دون الجذور والأسباب الحقيقية التي ساقت إلى هذه المآلات.
ويكفي أن نعرف أن البنى الاجتماعية للمجتمع الإسلامي في فترات الازدهار العلمي، لم تختلف عنها كثيرا في مراحل الانحطاط، كما أن مقارنة الغرب الصاعد - ولو مبتدئا من الصفر – بالمسلمين في مرحلة التراجع تنطوي على حيف، حيث إن ثمة عوامل متشابكة ومتراكمة زمنيا قد جرت العربة الإسلامية إلى الخلف، فلم يكن هناك بد لإيقاف التراجع من إبطال العوامل الدافعة إليه، وهو أمر لم يكن مستوى الحيوية الاجتماعية للمسلمين يسمح به.
إن جهود ابن الهيثم في تصحيح علم الفلك – التي يشيد بها هف وغيره من الكتّاب الغربيين - صادفت أمة فيها جوانب قوة وفتوة، ولذلك وجد من يتابع جهوده بعد ذلك، وأما جهود ابن الشاطر في المجال نفسه – والتي انبهر بها هف جدا - فإنها لم تصادف ظروفا عامة موائمة حتى يواصل الفلكيون الإنجاز بعده، بل إن الفلسفة اليونانية في المراحل المتأخرة كانت قد سكنت في أعماق العقلية العلمية للمسلمين، وركدت الحياة العقلية عامة لهذا السبب وغيره.
[1] - ما زالت "الحكمة" أو الفلسفة اليونانية بشكلها التقليدي جزءا من المقررات الدراسية في الكثير من المدارس الدينية بشبه القارة الهندية ضمن ما يسمَّى "درس نظامي".
[2] - وتحت تأثير هذا الأمر "كان الفارابي وابن سينا وابن رشد – كما يقول جورج قنواتي - مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات" (تراث الإسلام 2/ 44، إشراف: جوزيف شاخت وكليفورد إدموند لوزورث، ترجمة: د. حسين مؤنس وإحسان صدقي العمد، مراجعة: د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة – الكويت العدد 234 يوليو 1998م)، واعتقد السهروردي "بوجود حكمة واحدة وحسب، ومأثور صوفي واحد عبر عنه على مر القرون هرمس وأفلاطون وأرسطو، وأحيانا أخرى عبر عنه أجاثوذيمون وإيمبادقليس وحكماء الهند وفارس – وهذا ما أراد السهروردي أن يكتشفه ويعبر عنه من جديد في إطار قرآني" السابق 2/ 65.
[3] - يقول أبو سعيد السيرافي في جداله لمتى بن يونس حول المنطق اليوناني: "علم العالَم مبثوث في العالَم بين جميع من في العالَم... وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جَدد الأرض" الإمتاع والمؤانسة 1/ 112، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت، ب. ت.
[4] - قد يكون بعض فلاسفة اليونان أدرك هذا التمايز، خاصة أرسطو، عندما قدم تصنيفه للعلوم، وميز بين ما هو علم عملي تطبيقي وما هو نظري عقلي، إلا أن هذا لا يعدو أن يكون إدراكا عاما لخصائص العلوم، وإرهاصا غامضا بالتمايز المنهجي بينها.
[5] - السيوطى: صون المنطق والكلام عن فنى المنطق والكلام: ص 15. ومعه مختصر السيوطى: "نصيحة أهل الإيمان فى الرد على منطق اليونان" لابن تيمية، تحقيق: علي سامى النشار، ط. الأولى، مكتبة الخانجى، مطبعة السعادة – مصر، ب. ت.
[6] - أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة 1/ 121.
[7] - السابق 1/ 123، وانظر: 1/ 116.
[8] - فتاوى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والقواعد: ص 42 طبعة بدون بيانات قوبلت على نسخة محفوظة بدار الكتب برواق الأتراك بمصر رقم 1776.
[9] - السابق نفسه - لكنه ذكر "فقعاقع" بدل "فقاقع"، ولعل ما أثبته الصواب.
[10] - يستثنى من ذلك ما قاله ابن تيمية من "أن المدلول إذا كان وجوده مستلزما لوجود دليله، كان انتفاء دليله دليلا على انتفائه. أما إذا أمكن وجوده، وأمكن أن لا نعلم نحن دليل ثبوته، لم يكن عدم علمنا بدليل وجوده دليلا على عدمه" مجموع الفتاوى 7/ 573 جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، دار عالم الكتب – الرياض 1421هـ/ 1991م.
[11] - نظام الدين النيسابوري: تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 4/ 148 الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية – بيروت 1416هـ/ 1996م.
[12] - ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 8، وص 28، إدارة ترجمان السنة، لاهور – باكستان 1396هـ/ 1976م.
[13] - السابق ص 31.
[14] - السابق ص 26 - 27.
[15] - انظر: د. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث ص 44 – 45، 48، الطبعة السادسة، دار المعارف بمصر 1970م.
[16] - ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار 1/ 36، إيجوكشنل بريس، كراتشي – باكستان 1406هـ.
[17] - الذهبي: سير أعلام النبلاء 14/ 270 الطبعة الحادية عشرة، مؤسسة الرسالة – بيروت 1422هـ/ 2001م.
[18] - السابق 21/ 308.
[19] - ابن كثير: البداية والنهاية 14/ 137، الطبعة الأولى، المكتبة القدوسية، لاهور – باكستان 1404هـ/ 1984م.
[20] - ولعل ابن سريج الشافعي قصد أمرا كهذا حين قال: "قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح؛ يفوته الفقه، ولا يصل إلى معرفة الكلام" طبقات الشافعية الكبرى 3/ 25، تحقيق: د. عبد الفتاح الحلو ود. محمود الطناحي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي – القاهرة، ب. ت.
[21] - نقل صاحب طبقات الأطباء عن علي بن رضوان قوله: "صناعة الطب تتاخم الفلسفة" عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/ 164 دار الفكر – بيروت 1377هـ/ 1957م – على الرغم من بُعد الشقة بينهما حتى في زمن ابن رضوان!
[22] - فكانت المشكلة الحقيقية بالنسبة لهذه العلوم في فك هذا الارتباط، وليس كما قال أحد الباحثين الغربيين في وصف الإنجاز الإسلامي العظيم في مجال الفلك ووصولهم إلى ما وصل إليه كوبرنيكوس بعد ذلك بقرون، ما عدا القول بمركزية الشمس – قال: "كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي"؛ أي القول بمركزية الشمس وليس الأرض، ثم رتب على ذلك شيئا عجيبا بقوله: "وبما أن العرب عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بدايات العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية في العالم ما تزال تتمسك بالتقاويم القمرية"!! توبي أ. هف: فجر العلم الحديث ص 77، ترجمة: د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة – الكويت العدد 240، 2000م. وهذا لا يعني التشكيك في أهمية التصور الصحيح في إدراك الظواهر وتفسيرها، ولكن الإدراك الكامل قد لا يكون شرطا في هذه المسألة، فكتاب طبقات الأطباء مملوء بحكايات حول نجاح الأطباء القدامي في علاج حالات مرضية مستعصية، مع أن إدراكهم لطبيعة الجسم البشري والعمليات الحيوية التي يقوم بها لم يكن كاملا، بل كانت فيه أخطاء.
[23] - ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 3/ 412.
[24] - السابق 3/ 122 - 123.
[25] - السابق 2/ 351.
[26] - د. محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث ص 62.
[27] - طبقات الأطباء 2/ 371.
[28] - توبي أ. هف: فجر العلم الحديث ص 109.
[29] - راجع مثلا: محاورة الدفاع لأفلاطون ص 151، 162، ترجمة: عزت قرني، دار النهضة العربية، القاهرة 1393هـ/ 1979م.
[30] - برتراند رسل: حكمة الغرب: عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي ص 45، ترجمة: د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة – الكويت العدد 62، فبراير 1983.
[31] - السابق ص 66 - 67.
[32] - انظر: يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 32، الطبعة الخامسة، لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة 1389هـ/ 1970م.
[33] - ويمكن اعتبار سقراط من ممثلي هذا الموقف، خاصة أنه "قد ثار خلاف طويل حول مسألة ما إذا كان سقراط بدلا من أفلاطون هو مؤسس النظرية (المثل)" – كما يقول رسّل: حكمة الغرب ص 90.
[34] - توبي أ. هف: فجر العلم الحديث ص 117.
[35] - جورج سارتون: تاريخ العلم (العلم القديم في العصر الذهبي لليونان) 3/ 54 – 55 ترجمة د. توفيق الطويل ود. عبد اللطيف أحمد علي وآخرين، دار المعارف – مصر 1961.
[36] - "Scientific knowledge is not possible through the act of perception" Aristotle: POSTERIOR ANALYTICS, (in The Works Of ARISTOTLE) P 1/ 120 translated by G. R. G. Mure. William Benton, Publisher – Copyright in the U.S.A, 1952 by Encyclopaedia Britannica, inc.
[37] - أرسطو: البرهان (منطق أرسطو ج 2) ص 417، ترجمة: متى بن يونس، الطبعة الأولى، تحقيق: د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات (الكويت) ودار القلم (بيروت)، 1980م. ثم يضرب أرسطو مثالا للمقارنة بين المعرفة الكلية والمعرفة الحسية فيقول: "لو كنا نبصر الزجاج أن فيه مسام، وكنا نرى الضوء يخرقها، لقد كان يتبين لنا لأي سبب يَخرِق من قبل أن البصر في كل واحد واحد على الانفراد يتصور معا أن الحال في كلها هذه الحال" ص 419.
[38] - ثمة من ينحاز من مفكري اليونان إلى جانب المعرفة الحسية تماما، ومنهم ديمقريطس (ت 361 ق.م) الذي يرى أن الحس هو "المصدر الوحيد للمعرفة". يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 46. إلا أن هذا لا يلغي الموقف اليوناني العام الذي يقدس المعرفة العقلية النظرية، كما أن وجهة نظر ديمقريطس تعاني من المشكلة نفسها؛ إذ لم تحقق التوازن بين مصادر المعرفة.
[39] - ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ ص 19، ترجمة: عطيات أبو السعود، مراجعة: د. عبد الغفار مكاوي سلسلة عالم المعرفة – الكويت العدد 225 سبتمبر 1997م.
[40] - زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبة ص 401 – ترجمة فاروق بيضون وكمال الدسوقي، الطبعة الثامنة دار الجيل – بيروت.
[41] - فتاوى ابن الصلاح: ص 42.
[42] - الزركشي: البحر المحيط في أصول الفقه 1/47، الطبعة الأولى، تحقيق: د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية – بيروت 1421هـ/ 2000م.
[43] - السابق 1/ 51.
[44] - السابق 4/ 334.
[45] - السابق 1/ 47.
[46] - الطوسي: شرح الإشارات والتنبيهات 1/ 217، وهو في هذا يشرح قول ابن سينا قبله بزمن طويل: "وأما المجربات فهي قضايا وأحكام تتبع مشاهدات منا تتكرر فتفيد (في المطبوع: يتكرر فيفيد، وهي مع جوازها غير مألوفة، وغير متوافقة مع استخدام ضمير التأنيث فيما بعد) إذكارا بتكررها، فيتأكد منها عقد قوي لا يشك فيه" 1/ 216.
[47] - الزركشي: البحر المحيط 1/ 74.
[48] - السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 2/42، طبعة دار الفكر ببيروت، المصوَّرة عن طبعة سنة 1368هـ بالمطبعة الحجازية المصرية، ب. ت.
[49] - الطوسي: شرح الإشارات والتنبيهات 1/ 216.
[50] - طبقات الأطباء 3/ 4.
[51] - ابن سينا: القانون في الطب 1/ 224 – 225، طبعة بالأوفست عن طبعة سنة 1294هـ ببولاق، دار الفكر للطباعة والنشر، ب. ت.
[52] - عبد الكريم القشيري: الرسالة القشيرية في علم التصوف ص 62 مطبوعات مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده – القاهرة 1386هـ/ 1966م.
[53] - طبقات الشافعية الكبرى 2/ 310.
[54] - السابق 2/ 341 - 342.
[55] - شاه ولي الله الدهلوي: حجة الله البالغة 1/ 13، راجعه وصححه محمد أحسن النانوتوي، طبع: نور محمد كارخانه تجارت كتب آرام، كراتشي – باكستان، ب.ت.
[56] - قال صاحب "القاموس المحيط" في قنس: "القَنَس... نبات طيب الرائحة... فارسيته الراسن".
[57] - محمد بن إسحاق النديم: الفهرست ص 398 المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة، ب. ت.
[58] - د. قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث ص 43.
[59] - توبي أ. هف: فجر العلم الحديث ص 230.
[60] - د. عبد الرحمن بدوي: من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص 226، الطبعة الثانية، دار سينا للنشر، القاهرة 1993م.
[61] - ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/ 10.
[62] - انظر ترجمته عند د. عبد الرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين ص 311 – 320، الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين – بيروت 1993م.
[63] - فجر العلم الحديث ص 100.
[64] - السابق ص 106.
[65] - السابق ص 96.
[66] - السابق ص 226.
[67] - السابق نفسه.