الأحد، 24 مايو 2009

نمور التاميل ومعضلة الأقليات الدينية والعرقية


لا نتجاوز الحقيقة كثيرا إذا قلنا إن أكثر المشكلات والأزمات السياسية الحادة التي وقعت وتقع في العالم المعاصر مرجعها إلى أمور ذات علاقة بأقلية دينية أو مذهبية أو عرقية، لا تُستثنى من ذلك قارة أو إقليم كبير من أقاليم العالم تقريبا، سواء تكلمنا عن باكستان والهند والفلبين والتبت وسريلانكا ولبنان، أو السودان ورواندا ومالي والكونغو وجنوب أفريقيا، أو أيرلندا وإسبانيا وروسيا ويوغوسلافيا الذاهبة وكندا، وسواء ضربنا المثال بالأقلية الزنجية في الولايات المتحدة الأميركية، أو الأقليات الكردية في العراق وإيران وتركيا، أو السكان الأصليين في أستراليا وبيرو والمكسيك، أو الأقلية المسيحية في مصر، أو الشيعية في بعض دول الخليج.
وقد تكون مطامح الأقلية سببا للمشكلة السياسية، وقد يكون الحيف على حقوقها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية هو السبب في هذا. وربما يدفع الأقلية إلى تأزيم المواقف العالمية أنها تريد إحداث دوي هائل بقدر آمالها في تحصيل "حقوقها" أو بقدر يأسها من ذلك، والمثال يأتي من اغتيال الصرب لأرشيدوق النمسا فرديناند عام 1914، وهو الحدث الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى.
وقد يكون وجود الأقلية على تقاطعات سياسية معينة دافعا قسريا إلى إشراكها في مشكلة ما، وأخيرا قد تجتمع كل هذه العناصر أو أكثرها في حال أقلية واحدة، شأن أكراد العراق والحركة الشعبية في جنوب السودان.


بعد ستة وعشرين عاما من الكفاح المسلح ضد حكومة كولومبو سقط كل شيء، وانتهت تجربة نمور التاميل في سريلانكا نهاية دراماتيكية سريعة بسقوط معاقلهم وقتل قائدهم وكبار مساعديه بيد قوات الجيش السريلانكي، ولكننا لا ندري هل بقي لدى الأقلية التاميلية (الهندوسية) في الجزيرة من يعيد الكرة في مصاولة الدولة والدعوة إلى الانفصال عنها من جديد أم لا؟
يلفت النظر في تجربة التمرد التاميلي الذي امتد أكثر من ربع قرن، أن نهايته كانت أسرع من المدى التاريخي الذي شغلته التجربة، أي أن جدلية المحو ومقاومة المحو التي تقع بين السعي المضاد للخصم والممانعة الذاتية، لم يكن متوقعا أن تصل -خلال حملة عسكرية واحدة- إلى نهايتها بهذه السرعة الكبيرة لتجربة انفصالية ظلت تلح على الاستقلال عن الدولة الأم طوال هذه الفترة، وكانت تتصدر أنباؤها نشرات الأخبار في العالم من حين إلى آخر.
لقد حمت "الجغرافيا الطبيعية" لسريلانكا التجربة الانفصالية للنمور بعض الوقت، ولكنها لم تستطع حمايتها طوال الوقت، وذلك لأن الغابات الكثيفة أعانتهم إلى مدى معين على اتباع أسلوب الكر والفر في مواجهة الدولة واصطياد جنودها ورموزها الكبيرة، والتي لم يُستثنَ منها حتى رئيس الدولة وكبار وزرائه ومسؤوليه، ففي عام 1993 اغتال نمور التاميل الرئيس السريلانكي بريماداسا، وفي عام 2005 جاء اغتيالهم المدوّي لوزير الخارجية التاميلي المسيحي لاكشمان كاديرجامار.
هذا عن الجغرافيا الطبيعية لسريلانكا ووقوفها في صفوف التاميل إلى حين، إلا أن "الطبيعة الجغرافية" للدولة التي لا تعدو أن تكون جزيرة صغيرة ألقتها الأقدار في هذا الموضع النائي من العالم، يسرت أمام الدولة وسائل المواجهة معهم، وحصرتهم في رقعة محدودة شمال الجزيرة وشرقها، وإن احتاج الأمر من الحكومة إلى جهد استخباراتي مكثف وطويل -خاصة بالاستعانة بأنصار الحكومة من التاميليين- لفهم جغرافية التنقل والتحرك التي كان يتبعها المتمردون في هجومهم ورجوعهم، مما حد من عمل الجغرافية الطبيعية في صفوف الأقلية الساعية إلى الانفصال.
لكن ثمة عاملا آخر ذاتيا كان له تأثيره الحاسم في فقدان تجربة النمور القدرة على الاستمرار في مشروعهم الانفصالي عن كولومبو إلى نهايته "السعيدة"، ويتمثل هذا العامل في المهارة العالية والقدرة الفائقة لزعيم التاميل المقتول فيلوبيلاي برابهاكاران على التخلص من أصدقائه الفعليين والمحتملين على السواء.
فعلى الرغم من وقوف رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي وراء إنشاء حركة التاميل وتدعيمها لها سياسيا وعسكريا، ومساندة الحكومات الهندية المتتابعة لحقوق التاميل في داخل سريلانكا، فقد شارك زعيم التاميل بقوة في إفساد الحياة السياسية للجارة الكبيرة بالضلوع في قتل راجيف غاندي الذي خلف أمه في قيادة الهند.
وترجع الأزمة القاتلة بين الطرفين في بُعدها الاجتماعي إلى حالة اغتصاب فردي قام بها أحد الجنود الهنود الذين كانوا يقومون بأعمال المراقبة في إحدى محاولات الهند للتقريب والمصالحة بين الطرفين، حيث اعتدى جنسيا على فتاة من عُرض الأقلية التاميلية.
كثير من الشعور بالمرارة -لا شك- قد أصاب هذه الفتاة نصف المثقفة، فبين إحساسها القومي بأنها وقومها قد اغتُصبت حقوقهم من قبل الأكثرية البوذية، وإحساسها الخاص بأن الصديق القادم لرعاية الحوار بين التاميل والحكومة قد أطلق سعار شهوته الظالم في اتجاهها -بين هذا وذاك- سيطر على الفتاة شعور عميق بالاضطهاد، مع قلة الحول والعجز عن التأثير في خط مستقيم، وهو خليط من المشاعر يولّد في الإنسان قوة واستعدادا هائلين للانتقام والانفجار في خط غير مستقيم، مهما يكن الثمن.
وهذا ما كان بالفعل، حيث عبرت الفتاة المغتصبة البحر بينها وبين الهند في جموع اللاجئين، ولم يكفها في الثأر لمصابها الانتقام من قوة المراقبة العسكرية الهندية في بلادها، فجمعت في جسدها بين الورد والمتفجرات التي أودت بحياة راجيف غاندي أثناء قيامه بدعاية انتخابية حارة في جنوب بلاده عام 1991.

لقد امتزجت المعاناة العامة مع المعاناة الخاصة، فوجدت صداها عند زعيم التاميليين الذي ساعد هذه الفتاة وجنّدها لتنفيذ عملية الاغتيال، لكن ظهر أن هؤلاء انتقموا من قضيتهم قبل أن ينتقموا لها، ودفعوها قبل أن يدفعوا عنها!
ولم يكن من سخريات القدر الكبيرة أن تخرج سونيا غاندي -زعيمة حزب المؤتمر الهندي وزوجة راجيف غاندي- أخيرا، وبعد ثمانية عشر عاما من اغتيال زوجها، لتعبر عن تشفيها لمقتل زعيم التاميل برابهاكاران قائلة: "لقد قتل زوجي وجعل أبنائي يتامى"، وذلك في حومة الانتخابات الهندية الأخيرة التي شارك فيها حزب قومي تاميلي (من تاميل نادو بجنوب الهند) يدعو في برنامجه إلى مناصرة النمور التاميليين في سعيهم إلى الانفصال.
ومن جهة أخرى تخلص برابهاكاران من جميع معارضيه من التاميليين بالاغتيال والتصفية الجسدية، خاصة زعماءهم الذين قبلوا الجلوس مع حكومة كولومبو للبحث في إجراء مصالحات تحت إشراف الهند في عهد راجيف غاندي، وبالمثل قام بتصفية حلفائه من المسلمين، وطرد أكثر من مليون مسلم من ديارهم في الشمال في عملية تصفية عرقية مؤلمة أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
ومثل هذه الشخصية يصدق عليها وصف أنه "عدو نفسه"، فهو بتصرفاته غير المحسوبة يجرد نفسه من مكامن القوة، ويكثر من أعدائه، ويزرع الأرض من تحت قدميه بالألغام، ويجعل القوة -لا الفكرة الوطنية ولا المحبة الإنسانية- أساس الربط بين أفراد جماعته، مما حوله من قيادة وطنية إلى رئيس عصابة، وحولهم من جماعة ثورية إلى جمعية اغتيالات لا حق لها في الدفاع عن حقوق وطنية مستباحة.
وهكذا تعاون ثأر شخصي ضاق به صدر فتاة، وتفكير مندفع لزعيم ثوري يفكر ببندقيته لا بعقله، والطبيعة الجغرافية للدولة السريلانكية، وعمل استخباراتي طويل ومنظم للجيش السريلانكي في معاقل التاميل وأساليبهم القتالية، تعاون كل هذا على وأد حُلم النمور في الانفصال، ولو إلى حين.

معضلة الأقلياتألححت فيما سبق على عدم إغلاق الباب تماما أمام إمكان عودة التاميل إلى القتال من جديد في صورتهم القديمة أو على صورة أخرى، وهذا ما يحدث بعضه بالفعل، وهو ما تمليه طبيعة التجربة التاريخية لحركات الانفصال أيضا. إذ إن النهاية الحزينة لفصل من فصول أي من هذه التجارب لا يقضي عليها بالضرورة، وإن أسكت صوتها الجهوري فإلى حين؛ إلا بشروط تبدو علاجا ناجعا -وإن احتاج إلى احتياطات- لمشكلة الأقليات بأشكالها المختلفة.
نعم، تبدو مشكلة الأقليات الدينية والعرقية من أعقد المشكلات في كيان الدولة الحديثة، ويبدو في نظر بعض المحللين أنه يكفي لعلاج تلك المعضلة أن نطبق قوانين محايدة في المجتمعات ذات الانتماء المتعدد حتى يرضى الجميع، فنطبق في مصر مثلا قوانين علمانية حتى لا يغضب مسلم أو مسيحي لو طبقنا أحكاما تخالف دينه، ونتخير اللغة الإنجليزية لغة قومية لباكستان حتى لا يغضب الناطقون بالأردية أو السندية أو البشتوية إذا تخيرنا للدولة لغة رسمية غير لغتهم!!
ولكن لا يبدو أننا نصيب المِفْصل الحقيقي للمشكلة بمثل هذه الحلول، وما زدنا على أن سوينا بين جميع الأطراف من حيث مخالفة مبادئ دستورهم الوطني لهوياتهم الثقافية والدينية، بدلا من أن توافق فريقا وتخالف آخر.
وأهم من ذلك أنه ليس المهم بالنسبة للأقلية هو أن يكون نظام الحكم ملكيا أو جمهوريا أو حتى ثيوقراطيا، ولكن المهم هو موقعها في هذا النظام، وهي مسألة تحدد -في رأيي- الأساس الأخطر لتحويل الأقليات إلى قوى فاعلة في الجسم الوطني تعزف معه في اتجاه واحد.
وإذا رجعنا إلى المثال السريلانكي سنجد أن الأكثرية السنهالية يقع عليها جانب كبير من المسؤولية عن تمرد التاميل على الحكومة المركزية وسلوكهم هذا الطريق الوعر الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الناس غير مئات الآلاف من المشردين، وعطل التنمية في البلاد زمنًا طويلا، وذلك بسبب تفرقة الأغلبية بين القوميات والأديان، وتوجيه جانب كبير من الاضطهاد إلى المسلمين والتاميل على السواء.

لعلنا لا نجتنب الصواب إذا قلنا إن حل معضلة الأقليات بألوانها المختلفة يتلخص في أمرين رئيسين:
الأول: منح الحرية على التساوي لكل أبناء الوطن الواحد.
الثاني: تبني الدولة لمشروع وطني يشارك فيه الجميع بتحمل مسؤوليته وجني ثماره على السواء.
إن الأقلية لا تنفصل عن جسم الوطن الذي تنتمي إليه إلا إذا شعرت بالغربة في وطنها، أو إذا أغراها طرف خارجي بثمرة أكبر مما تجنيه من حال التوافق مع الأكثرية، وفي كل الأحوال لا نحتاج إلا إلى الإنصاف واليقظة.
إن المساواة والحرية كفيلة بأن تذيب -مع الزمن وخلال عمليات التفاعل الاجتماعي التي لا تتوقف- امتياز الأقلية عن الأكثرية، في حين أن التفرقة والتضييق والاضطهاد كفيلة بتضخيم ذات الأقلية وصناعة قضايا خاصة لها تنفصل بها عن بنيان الوطن وأحلامه.
وأخيرا: من الحق أن نقول: إن الولايات المتحدة الأميركية تضم الآن أكبر تنوع عرقي وديني في العالم، ومع ذلك فهي تقدم نموذجا قابلا لمزيد من الانسجام كلما ضبطت وتيرة العلاقة بين مكونات المجتمع، ولكنه قابل للاهتزاز بقوة إذا لم تُضبَط هذه الوتيرة.

الثلاثاء، 28 أبريل 2009

مصر.. هل تغير موقعها في القضية الفلسطينية؟


قد يكون من المفيد أن نتجاوز المواقف الجزئية التي أبدتها وتبديها السياسة المصرية تجاه الوضع الفلسطيني ومتعلقاته منذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وهي مواقف أثارت وتثير كثيرا من الجدل الساخن بين أنصار ومعارضين من هنا وهناك, نتجاوز ذلك إلى نظرة أعم تبحث في موقع مصر في القضية الفلسطينية عامة، وهل تغير عما كان عليه طيلة عمر هذه القضية؟
وأهمية هذا التجاوز المؤقت للجزئيات أنه يقف بنا عند واحد من نماذج التغير التاريخي في عناصر حالة سياسية معينة، وهي أمور أدت وتؤدي إلى تأثيرات عميقة في مسار أحداث ضخمة غيرت صورة العالم من قبل، ومن الأمثلة الحديثة على هذا، ظهور شخصية السياسي البريطاني الكبير ونستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية، ودخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب نفسها إلى جانب الحلفاء، وأخيرا دخول العامل الاقتصادي الآن عنصرا مزحزِحا للمكانة السياسية الأميركية الفريدة في العالم.
وقد شهدت القضية الفلسطينية نفسها -على هذه الشاكلة- نوعا من التغيير الخطير لمواقع بعض عناصرها منذ أكثر من عقدين من الزمان، وذلك بعد فشل الدول العربية في الحفاظ على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني سواء بالحرب أو السلم، إذ تحول الشعب الفلسطيني عقب نشوب الانتفاضة الأولى -وبصورة تدريجية- إلى قوة ثورية -كما كان في ثورة عام 1936- تناضل بنفسها كبقية الشعوب التي سعت إلى الاستقلال، بعد أن كان العرب يقومون عن الشعب الفلسطيني بالنضال البديل، أو بعد أن كان الفلسطينيون يعملون قوة ثورية مضافة إلى الكيانات العربية التي يدورون في فلكها.
كما أن موقع مصر في القضية الفلسطينية قد شهد -كمثال آخر- بعض الزحزحة عن صورته الأولى منذ إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، والتي أفقدت العرب الظهور -على الأقل- جبهة واحدة مقابل إسرائيل.
وقبل الإيغال مع الاستفهام الذي يطرحه هذا المقال، أشير إلى المقصود من استعمال كلمتي "موقع" و"موقف" هنا، فالمواقف جزئية ومتغيرة، أما الموقع السياسي في قضية ما فيمثل صاحبه خلاله جزءا من القضية، ولهذا يلزم أن تكون المواقف خادمة للموقع السياسي لأي دولة.
كما أن "الموقع" بهذا المعنى لا يكون اختيارا حرا لنظام سياسي أو آخر، ولكنه "طبخة قدرية متشابكة العناصر" -إن جاز التعبير- تفرض أن يكون الموقف السياسي على هذه الشاكلة أو تلك.









والموقع الخاص لمصر في القضية الفلسطينية صنعته الجغرافية من جهة والثقل التاريخي والثقافي والسياسي في المنطقة من جهة ثانية، فقد توفر لمصر عامل "الجوار الخاص" مع أرض فلسطين المحتلة، وصار هذا عنصرا صانعا بنفسه للحدث السياسي ومحددا لاتجاهاته.
وأي جوار جغرافي له -في الحقيقة- خطورته الأكيدة على الأطراف المشاركة فيه، إلا أنه في حالات "الجوار الخاص" تدعم الجغرافيةَ التقاءات لغوية وعرقية ودينية وتاريخية بين أطرافه تجعل الحدود بينهما مصطنعة أكثر منها حقيقية، ومؤقتةً أكثر منها قابلة للبقاء.
ومن هنا لا نسوي بين جوار وجوار، فثمة فرق بين الجوار الهنغاري النمساوي والجوار الفلسطيني المصري، وثمة فرق بل فروق بين هذا الأخير والجوار الأميركي المكسيكي، وكذلك الحال إذا تكلمنا عن الجوار الإثيوبي الكيني.
من جهة أخرى، فإن هذا الجوار الخاص بين مصر وفلسطين قد زاد من أهميته الموقع الخاص المعروف للمنطقة عموما، وأن كل جزء فيها يمثل للآخر مصدرا للخطورة الهائلة أو فرصة كبيرة للاستقرار والأمن، ومن هنا بقيت مصر وفلسطين خاضعتين لحكومة واحدة لحقب زمنية طويلة قبل الإسلام وبعده، بل إن آخر من أدار شؤون غزة -تلك البقعةَ الأكثر إثارة للجدل في كل الوطن الفلسطيني الأسير- قبل الاحتلال الإسرائيلي لها في العام 1967 هي القاهرة.
وأما الثقل الخاص لمصر فهو لا ينفي أهمية الجوار السوري واللبناني والأردني لفلسطين، الذي يمثل تعدده تعددا ممتازا في رئات النضال الفلسطيني، ولكنه يشير إلى التفاوت الطبيعي في إمكانات التأثير والفعل في القضية الفلسطينية من رئة إلى أخرى.

السلام خيارا فلسطينيايرى بعض المتابعين أن اتفاقية كامب ديفد عام 1979 قد حيدت مصر وأخرجتها من الصف العربي فيما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، وأن حرب غزة 2008-2009 أوقفتها في صف إسرائيل.
والحق أن هذا القول لا يخلو من مبالغة في الحالين، وإن أشار إلى نوع من التطور المحسوس في موقف سياسي يقدم أصحابه أعذارا تحتاج إلى المناقشة في حالة، وقام على حسابات غير مدروسة جيدا في حالة أخرى.
ولعل من الواضح أن المقصود بالحسابات غير المدروسة هو وقوف الرئيس أنور السادات في كامب ديفد عند الخيار السلمي مع إسرائيل دون ترك الاحتمال لأي خيار آخر، ودون بلورة موقف عربي واحد ومدروس من المسألة قبولا أو رفضا، وهو ما ليس موضع مناقشته هنا.
وأما رصد التغير الذي طرأ على الموقف المصري من القضية الفلسطينية في المرحلة الأخيرة، فقد بدا جليا منذ انقسام الساحة الفلسطينية "الرسمية" عقب انتخابات يناير/ كانون الثاني 2006 إلى طرفين بينهما شراكة قلقة، سرعان ما انهارت انهيارا حاسما في منتصف العام 2007 حين سيطرت حركة حماس على غزة، بدا أن تغيرات بِنوية عميقة قد طرأت على البناء الوطني أو الجسم الثوري للقضية الفلسطينية، اختلف معها واقعه حتى عما كان عليه في المرحلة المحصورة بين بدء تطبيق أوسلو والانتخابات والسيطرة على غزة، وذلك لأن الحادثين الأخيرين قد حولا انقسام الساحة الفلسطينية من تنافس بين غرماء إلى تقاتل إقصائي بين خصوم.
وليس من المعقول بعد هذا التغير العميق في البيت الفلسطيني من الداخل أن تبقى المواقف العربية كما هي، إلا أن الإشكالية أن كل طرف عربي له تأثير يريد أن يجر القضية ناحية خياره هو، خاصة أن كل الخيارات صارت ممثلة بين الفلسطينيين، فهناك من يرى التفاوض المفعم بالتنازل، ومن يرى التفاوض الذي يضمن أكبر قدر ممكن من الحقوق، ومن يرى النضال المسلح وحده، ومن يرى تقديم النضال مع عدم الممانعة في شيء من التفاوض.
وبدا أن السياسة المصرية -وفقا لهذا- تعمل في القضية الفلسطينية حسب خيارها الأصلي، وهو خيار السلام والسلام وحده، الذي هو نفسه خيار أحد الأطراف الفلسطينية، وهو طرف "السلطة الوطنية".



ودعمت الرؤية المصرية موقفها بأن هذا هو الذي أعاد سيناء إلى مصر، وبما يصفه المؤيدون لها بالواقعية في مناخ عالمي عصيب، تلك الواقعية التي حمت مصر -حسب هؤلاء- من الوقوع في مثل مصير العراق الذي ساقته السياسات غير المحسوبة لقيادته البعثية إلى ما هو معروف من مصيره وحاله.
فصارت المواقف المصرية من القضية الفلسطينية تتعلق بثلاثة تعللات:
الأول: إيمان السياسة المصرية بضرورة الدفع باتجاه الخيار السلمي وحده، مع عدم الممانعة في مطالبة الأطراف الدولية المؤثرة بالضغط على إسرائيل لتخضع لهذا الخيار.
الثاني: ضرورة التأقلم مع الوضع الدولي الذي أدت مخالفته إلى تدمير العراق.
الثالث: أن الخيار المصري هو خيار "أهم طرف فلسطيني"، وهو السلطة التي تديرها منظمة التحرير الفلسطينية التي هي "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وأن مصر مضطرة إلى هذا الانحياز في ساحة مختلفة على نفسها حاولت القاهرة كثيرا أن تجمع أطرافها دون جدوى.
ومن البدهي أن نقول: إن السياسة لا تقوم على خيار وحيد إطلاقا، وإلا كانت استسلاما أو جمودا، مع أنها في حقيقتها فن الانفتاح على كل الخيارات، مع الوقوع عند التطبيق على أكثر هذه الخيارات مناسبة.
وأما التأقلم مع الأوضاع الدولية غير المواتية، التي بدت أكثر جلاء مع تفاقم حملة بوش على ما أسماه "الإرهاب"، فإن الإنسان قد يحني رأسه للعاصفة، لكن لا يمكنه أبدا أن تكون سياسة حياته أن يبقى مَحْني الرأس على الدوام.
كما أن السياسة لا بد أن تكون لها قرون استشعار تقرأ المستقبل جيدا، وتتخذ مواقعها وفقا للراجح من توقعاتها، وقد بدا في منتصف الطريق أن حملة بوش المذكورة مآلها الفشل وفقا لقراءات من داخل أميركا نفسها.
ومن هنا تصبح مقولة "الواقعية في مناخ عالمي عصيب" صنما أقامته أوهامنا، وعلينا أن نهدمه قبل أن يهدمنا.

مراهنة.. على من؟أما المراهنة على خيار السلطة الفلسطينية، وهو السلام مع الأطراف الإسرائيلية المستعدة له، فهل السلطة بوضعها الحالي طرف يمكن المراهنة عليه؟ إن شروط المراهنة على طرف ما في أي لعبة سياسية يمكن تلخيصها في نقاط يجب أن توضع في الاعتبار قبل إبرام أي قرار سياسي في هذا الخصوص، وأهمها:
- أن يكون الطرف الذي نراهن عليه قادرا على تحقيق مكاسب معقولة ومناسبة للجهد المبذول في معاونته.
- أن يكون ولاؤه خالصا للقضية التي يناضل من أجلها أو المواقف التي يختارها.
- ألا تتعارض الأهداف الرئيسة له مع أي من الثوابت الوطنية والاعتقادية للمراهِن.
- ألا يكون في الساحة نفسها بديل أكثر مواءمة منه لتحقيق أهداف المراهنة عليه.



وأحسب أن قراءة حال السلطة الفلسطينية في ضوء هذا تفرض على الأنظمة العربية التي تميل إلى خيار السلام -بافتراض أننا واقعيون تماما وأن هذا أكثر ما يمكننا فعله الآن- أن تبدأ أولا بالتركيز على إصلاح منظمة التحرير وحركة فتح، وتستخدم وسائلها في الضغط لأجل السير في هذا الطريق الضروري.
وأهم من هذا الإجراء أن نفهم جيدا أن الوقوف ضد الطرف الذي اختار مقاومة الاحتلال لا يمكن أن يمثل يوما وقوفا مع الطرف الذي اختار التفاوض مع إسرائيل، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يحقق الموقف المتوازن بين الطرفين فرصة لإعادة اللحمة بينهما أولا، ثم إنه يحقق مكاسب كبيرة للطرف المفاوض الذي سيبدو في نظر الاحتلال أقل الضررين مهما بدت شروطه التفاوضية.
وفي ضوء هذا كله لا يبدو أن السياسة المصرية تملك ما تدفع به الاتهام بأنها غيرت خلال مواقف متعددة موقعها في القضية الفلسطينية، في سيرورة لا يبدو للعقلاء إلا أنها عكس التاريخ والمنطق، وأن الاستمرار في هذا الاتجاه لا يتلاءم مع المصلحة الوطنية لمصر ولا شقيقاتها العربيات، ولا يعيد للفلسطينيين من حقوقهم كثيرا ولا قليلا.



الخميس، 12 فبراير 2009

الوساطة المصرية إبراء للذمة أم حفاظ على المصالح الوطنية؟


لم يُسَرّ كثيرون بمواقف الحكومة المصرية من غزة أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليها، بل بدا أن قلوبا كثيرة قد جرحتها بألم تصريحات رسمية عديدة صدرت عن القاهرة، فضلا عن المواقف العملية أثناء الأزمة.
وبالطبع لم ينته الدور المصري في غزة بتوقف القتال، بل لا يمكن أن ينتهي -على أي حال- ما دامت الجغرافيا هي الجغرافيا والتاريخ هو التاريخ. وفي الواقع الفعلي ما يزال هذا الدور يتواصل خلال الوساطة المصرية بين حماس وإسرائيل.
وعدم إمكانية إخراج مصر من المعادلة الفلسطينية ليس مشكلة ولا محل خلاف أصلا، ولا حتى مع الإسرائيليين أنفسهم، ولكن المشكلة المهمة يطرحها هذا التساؤل: هل تغيرت حقيقة الموقف المصري من غزة بعد الحرب عما كان عليه أثناءها؟
قد يقال إن هذه الدول وهذه الشعوب لم تفعل شيئا كبيرا لغزة! لكن أَنَّى لها أن تفعل والشامُ ومصر لا ينتصر أحدهما بدون الآخر أبدا، وهو أمر يعرفه كل قارئ للتاريخ منذ فصوله الأولى وحتى اللحظة الحالية، بل يعرفه الناس منذ حِقَب زمنية طويلة.
فمثلا استغاث أهل فلسطين قديما بالفرعون إخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وكتبوا إليه يقولون عن الأعداء "إنهم الآن يحاولون الاستيلاء على يوروساليم، وإذا كانت هذه الأرض ملكا للفرعون، فهل تترك يوروساليم تسقط؟" فأرسل إخناتون جيشا لدرء الخطر الداهم.
وقُل مثل ذلك عن استقرار الفتح الإسلامي لمصر، وتأمين الوجود الأموي والعباسي ثم المملوكي والعثماني في المنطقة، ودرء الخطرين الصليبي والمغولي عن العالم.. إلخ.
والتاريخ لا يكذب، ولو أهمله من أهمله في قراءة الواقع، فمع تغير بعض المعطيات والظروف في واقعٍ ما تبقى فثمة عناصر ثابتة تفرضها الجغرافيا الصارمة والثقافة والتاريخ الذي لا يمكن أن يخفى وجهه، وهي أمور لم يفت إسرائيل الاهتمام بها في جامعاتها ومؤسساتها البحثية، كما لم يفت الاستعمار الغربي للمنطقة من قبل أن يوجه جيوش باحثيه إلى دراسة الشرق قبل أن يرسل عساكره لاحتلاله.

بعد الحربردد المسؤولون المصريون في أكثر من مناسبة -خاصة بعد توقف الحرب- أن مصر أهم لديهم من كل شيء، بمعنى أن مصلحتها بالنسبة لها، مقدَّمة على مصالح الجوار العربي، وأوله الجوار الفلسطيني.
وهذه حقيقة، فنحن نقول إن قلب الإنسان أهم له من يديه ورجليه، والاحتفاظ برأسه في مكانها أهم من الاحتفاظ بعينيه. ولكن متى نقول هذا؟ متى نقول إن الرأس بدون عين أهم من العين وحدها، والقلب أهم من اليد والرِّجل بإطلاق؟
بالطبع لا نقول هذا إلا في واقع لا نملك فيه الاحتفاظ بكل شيء، فحين يوضع المريض بين يدي الأطباء فإنهم يقدمون الاحتفاظ بما تذهب الحياة بذهابه على الاحتفاظ بما تنقص الحياة بفقده، إذا كانوا مضطرين إلى هذا، أي إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بكل شيء.
وعند التدقيق سنجد أن احتمالات الاحتفاظ بحق سلبه عدو قوي أرجح من احتمالات الاحتفاظ بعضو من الجسد أشرف على التلف، وإن كانت الأولى أكثر كُلفة، وذلك أن العضو المريض هو جزء الذات المتملكة تتحدد أوضاعه من الصحة والمرض تبعا لعوامل قَدَرية لا دخل للإنسان فيها غالبا، وأما الحق المسلوب فهو حق منقول أو متحرك، تتحكم في تملكه قدرات صاحبه وقدرات الغاصب، وهي قدرات غير ثابتة لا بالنسبة للغاصب ولا المغصوب.


ومن هنا فإن محاولة التأقلم مع واقع أننا الأضعف، وأن عدونا هو الأقوى بممالأة السياسة الدولية الظالمة هو صيرورة ضد الفطرة، وعمل في الاتجاه غير المعقول، وواقعية غير صحيحة، بل إنه منطق يائس في مواجهة مصاعب الحياة.
حقيقة قد لا نكون قادرين الآن على مواجهة إسرائيل ومن يساندها في حروب كبيرة وصريحة، ولكن لا ينبغي أن نسلم للأجيال التالية قضية ميتة، فنرجع بها إلى الوراء خطوات بعيدة، بدلا من أن نتقدم بها ولو خطوة واحدة.
وقد كانت مصر من قبل تتخطى الواقع الدولي غير المواتي، وتقدم مساعدات لدول شقيقة وصديقة أبعد عنها كثيرا من فلسطين، كالجزائر والكونغو، حتى تحررت هذه الدول من الاستعمار في واقع قد يكون أشد صعوبة من واقع القضية الفلسطينية.
ومن هنا نقول إن عودة الموقف المصري من غزة بعد الحرب ولو إلى المربع الأول الذي كان قبل الحرب، موقف ظلم للنفس وتقصير في حقها قبل أن يكون تقصيرا في حق الأخ والشقيق.
وإذا رجعنا إلى السؤال المحوري لهذه السطور، هل تغيرت حقيقة الموقف المصري من غزة بعد الحرب عما كان عليه أثناءها؟ نقول للأسف الشديد: لم يثبت لنا إلى الآن بصورة واضحة أن حقيقة الموقف المصري من غزة قد تغيرت.
فما زالت عناصر الموقف هي هي، وأهمها الحياد حيث لا يُعْقَل الحياد، والتسوية بين الظالم والمظلوم، والأخ والعدو، وتقديم التوافق مع الخارج على آمال الداخل، واعتبار القوة هي الحكم، فالأقوى هو الذي من حقه أن يأخذ، وهكذا.
لا ينبغي على الإطلاق أن تعتبر الوساطة المصرية بين حماس وإسرائيل تقريبا بين وجهات نظر طرفين يقفان من مصر على قدم المساواة، ولا تطوعا من مصر، ولا مجرد إبراء للذمة، ولا تغلبا على حرج سياسي. بل الدفاع عن غزة دفاع عن القاهرة والأزهر والأهرام والنيل، وتملك مصر باسمها المجرد -فضلا عن وزنها الثقافي والحضاري والجغرافي وغير ذلك- أن تؤثر بقوة في اتجاه الريح في المنطقة.
ومصر تستطيع الآن على الأقل، أن تشعر إسرائيل بقيمتها دون أن تطلق رصاصة واحدة كما فعلها أردوغان، حتى لا تتجرأ تل أبيب على توظيف مصر في مربعات القضية الفلسطينية التي تفيدها فقط، فتقصيها من الحوار مع السلطة الفلسطينية منفردة بالمفاوض الفلسطيني عاري الظهر، وتقربها عندما تريد الاستفادة من الضغط على غزة.
إن الإنسان "بشخصه" من حقه أن يفعل ما يشاء، على أن يتحمل نتيجة أفعاله، أما الإنسان "بصفته" فلا يملك مثل هذه الحرية المطلقة، لأنه لن يتحمل نتيجة الفعل وحده، وهذه هي ضريبة شغل المناصب الكبيرة، فتعطي لصاحبها من الصدارة بقدر ما تأخذ من حريته.

الثلاثاء، 13 يناير 2009

الجانب النفسي في مشروعات المقاومة والتحرير


ربما لا يكون الوقت مناسبًا لأي نوع من الوقفات المتأنية والهادئة لفهم الواقع في غزة وعموم القضية الفلسطينية، خاصة مع الهجمات الإسرائيلية الشرسة على القطاع الصامد، فلم يكتف صناع السياسة والقتل في إسرائيل بتشديد الحصار على غزة وتجويع أهلها، بل أضافوا إلى هذه الجريمة جريمةً أشد وحشية تتمثل في هذا السفك الواسع للدم الفلسطيني.
إلا أن من يريد البقاء في أي نوع من الصراع لابد أن يفهم بصورة جيدة مبادئ الصراع العامة وأصوله التي تحكمه، وألا يغفل عن هذا بسبب سخونة مشهد أو آخر؛ لأن مشروعات المقاومة والتحرر الوطني ليست مجرد جولة ينتهي فيها كل شيء، بل هي سلسلة متتابعة من الجولات التي قد تنتهي بالاستقلال، أو تؤدي إلى تشكيل كيان توليفي تزاوجي جديد، وذلك حسب مجموعة متداخلة من العوامل والظروف الخاصة بكل قضية تحريرية.

ولعل الجانب النفسي في مشروعات المقاومة والتحرير الوطني في حاجة إلى إيضاح؛ إذ إنه مَعْقِد مهم من معاقد النجاح –الكلي أو الجزئي- التي حققتها جميع حركات التحرير في التاريخ المعاصر، وهو أمر يرجِّح بقوة نجاح مشروع التحرير الفلسطيني -في المدى المتوسط أو البعيد- في مواجهة المشروع الصهيوني الغربي.
فمتى يولد أي مشروع للمقاومة في عقول أصحابه؟ وهل يولد كاملا من البداية؟ وما العوامل التي تنضجه وتعمق وجوده فيهم؟ وهل يُفتَرَض أن يكون كل أفراد المجتمع المقاوِم على صورة واحدة من تبني هذا المشروع؟
ولا أريد أن أتجاوز في الإجابة عن هذه الأسئلة المحورية في مشروعات التحرير والاستقلال حدود الفعل النفسي والانفعال الناتج عن تطورات الواقع، ومن هذه الناحية نجد أن مشروع استرداد الحق عمومًا ينشأ في نفس الإنسان وقت اغتصاب هذا الحق منه، ففي اللحظة التي يشرع فيها اللص في خطف حقيبتك يتشكل لديك الانفعال الطبيعي والاستعداد العملي للمصاولة على الحقيبة، بل إنك تدخل معه منذ بدء احتكاكه بك وتعرفك على هدفه نوعًا من الصراع حول حقيبتك، حسب درجة امتصاصك للصدمة أو استيعابك للمفاجأة.
والإنسان مدفوع إلى هذا بقوة فطرية مغروسة فيه، ولولاها لوقع في تناقض صارخ مع نفسه، أو لَمَا انسجم مع ذاته؛ إذ إن ملكيتي للشيء ملكيةً شخصية تعني ضرورة أن يكون في حوزتي، وألا أمكِّن منه أحدًا بغير المعاملات الحرة المألوفة بين الناس، والقائمة أساسًا على الرضا، كالبيع والشراء والهبة والصدقة، وهي دائما معاملات تحتفظ للذات المعطية بالندية -على الأقل- مع الطرف الآخر.
والحق أن مقاومة الغاصب، والسعي إلى استرداد الحق منه -حتى في هذا المثال البسيط- قد تتطور من شكل إلى آخر تبعًا للقوة التفاعلية لصاحب الحق ومدى قدرته على توظيف قدراته الخاصة وإشراك عناصر أخرى مساعدة له في معركته مع اللص.
وإذا حُسمت معركة الحقيبة لصالح الغاصب، فإن هذا لا يعني انتهاء مشروع البحث عن الحق في نفس صاحبها، والمشكلة فقط تبدو في الواقع الذي ربما لا يتيح له أن يخرج مشروعه المقاوِم إلى الفعل.
ولعل قصة المثل الشهير "الحديث ذو شجون" تكشف عن هذا بجلاء تام، فيروون أن سُعَيد بن ضَبَّة بن أد المُضَري قُتل قبل الإسلام وغُصبت ثيابه، ولم يمنع أباه من الثأر له إلا أنه لم يعرف قاتله.
وبعد زمن حجَّ ضَبَّة إلى مكة، "فلقي بها الحارث بن كعب، ورأى عليه بُرْدَيْ ابنه سُعيد، فعرفهما، فقال له: هل أنت مُخْبِرِي ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال: بلى، لقيتُ غلاما وهما عليه فسألتهُ إياهما فأبى علي، فقتلته وأخذتُ بُرْدَيه هذين! فقال ضبة: بسيفك هذا؟! قال: نعم. فقال: فأعْطِنِيه أنظر إليه فإني أظنه صارما، فأعطاه الحارث سيفه، فلما أخَذَه من يده هَزَّهُ وقال: الحديثُ ذو شجون، ثم ضربه بِهِ حتى قتله".
والقصة قريبة من الواقع، ويرى الناس أمثالها في حياتهم كثيرًا؛ إذ إن عجز الرجل عن الثأر لابنه بسبب المانع الخارجي لم يعنِ أن الفكرة قد ماتت في نفسه. ويكفي أن نعلم أن أحد الناس في صعيد مصر قد أخذ بثأر عمه بعد ستين سنة من قتله؛ وذلك حين توفرت في الواقع عناصر متكاملة مكنت صاحب الثأر من ثأره.
والحقيقة أن هذه الأمثلة على بساطتها تعكس المعاني نفسها التي يعكسها أي مشروع وطني تحرري في نفس الطرف المقاوِم، إلا أن المسألة تتعقد كثيرًا حينما تكون الحقوق المغتصبة حقوق مجتمع؛ إذ إن ما يملكه كل فرد في وطنه مثلا -سوى خصوصياته- هو شيء غير محدَّد في الحقيقة، ومن هنا فكل مواطن يملك كل شيء عامٍّ في وطنه؛ الأرض والسهل والجبل والنهر والبحر والثروة والسلطة والحدود، وليس من حقه فردًا كان أو جماعة -مع هذا- أن يتنازل عن شيء منها، فاحتاج الأمر إلى دعمٍ من عامل خارجي؛ إذ إن النفس الإنسانية تفرق بين ما تملكه بشكل محدد، وما تملكه مشتركًا مع غيرها.

وهنا تتدخل التعاليم الدينية والأفكار الوطنية كذلك، لا لتنشئ قوة الدفاع عن هذه الحقوق في نفوس أصحابها، فقد كفتها الفطرة هذا الواجب الخطير، ولكن لتحدث نوعًا من التوازن الذي لا يقتل الطبع ولا يدعه ينطلق بلا حساب: "... وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا"، "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ…"، ويُترَك لصاحب الحق الفردي بعد ذلك أن يتنازل عن حقه إن شاء، غير أن المستفاد عمومًا هو ألا يُكرَه الفرد -ولو من حاكمه- على العفو عن حقه، بل قد يُكرَه –كما يترجح لدى الفقهاء– على العقوبة، وذلك إذا كان مغتصب الحق معروفًا بإجرامه معتادًا على التعدي على حقوق غيره.
فهنا تكون للدين وظيفة أخرى غير دعوة الناس إلى حفظ ممتلكاتهم الشخصية، وهي وضع هذه المعاملة في إطار عام، وتحويل الحق الاختياري في حفظ الحقوق في بعض الأحيان إلى واجب، وتأكيد الرابطة بين حفظ المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وهو ما ينطبق تمامًا على حفظ الحقوق الوطنية للأمة، فكما أنه لا يجوز لولي المقتول أن يعفو عن القاتل الذي اعتاد القتل، وسبق أن عُفي عنه من قبل، فكذلك يصبح الذود عن الحقوق العامة ليس مجرد حق بل هو واجب؛ وذلك لما في التفريط في هذا الواجب من ضياع كل شيء، ومكافأة المعتدي بالسكوت على اعتدائه.
وهنا نجد أن المبالغة في السماحة التي امتازت بها بعض الأديان – كالبوذية مثلا – لم تكن واقعية، حيث تجاوزها أتباع هذه الأديان بالفعل في واقع الحياة؛ لما هنالك من فرق شاسع بين السماحة وبين حفظ الحقوق وردع المعتدين.
إننا نستطيع –في ضوء هذا– أن نفهم أن المشروع التحريري الفلسطيني بضيقه واتساعه مشروع قديم وذو فصول متتابعة، وأنه بدأ منذ ظهر المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين نظريًّا، وتطور مشروع التحرير -مع تطور واقع الفاعلين في القضية الفلسطينية- في عقول المهجَّرين وداخلَ مخيمات اللاجئين في الداخل والجوار والشتات، وعلى وقع القصف وبين ركام الهدم، بل تعمق في نفوسهم على أنغام هذه المآسي الحزينة، وكأنها محاضن ضرورية لولادة الفكرة قويةً.
وقد قفز هذا المشروع إلى الواقع في صور مجموعات نضالية (المنظمات الفلسطينية القديمة والجديدة)، وفي صور أفراد يتحركون بالفكرة ويسوقونها (الخطباء والفنانين والأدباء الفلسطينيين)، وكل يؤدي دورًا، إلا أن انتهاء فصل من المشروع الفلسطيني التحريري لا يعني بالضرورة انتهاء المشروع نفسه؛ فحتى لو حال الواقع دون فعل تحريري كامل، فإن بقاء المشروع في نفوس أصحابه (فلسطينيين وغير فلسطينيين) كفيل بأن يضمن عودته إلى الواقع من جديد.
ولهذا فإن تدريس التاريخ لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في البلاد العربية والإسلامية بصورة تجعل إسرائيل صديقة لنا، وتمحو من الذاكرة حقوق الأمة في أرض فلسطين؛ هو أشد خطورة على القضية الفلسطينية من كل صواريخ إسرائيل ودباباتها.
وكان من الممكن للأجيال الفلسطينية الجديدة التي سمعت عن التهجير ولم تشهده، وحُكيت لها أحداث النكبة ولم تحضرها، كان من الممكن أن تكون صورة المشروع التحريري الفلسطيني في ذهنها أقل قوة مما هي عليه الآن، إلا أن صناعة الحرب في إسرائيل أبت إلا أن تدعم مشروع التحرير الفلسطيني بمزيد من الدماء والتعدي على الحق الفلسطيني في العيش والأرض من وقت إلى آخر، دون أن تدري أن مزيدًا من الانفعال الفلسطيني بالدماء والخراب لا يعني أبدًا تأديب الفلسطينيين –كما يطمع فيه الطرف الإسرائيلي– ولكن مزيدًا من التبييت للثأر للقديم والجديد، ثأرا منصفا للنهر والبحر، والسهل والجبل، والبرتقال والزيتون.

إن التفاوض قد يقتل أو يؤجل على الأقل جزءًا من مشروع التحرير لأي وطن، أما المقاومة فهي –لأنها عالية الثمن– تأبى في العادة إلا كامل الحقوق. والجمع بين التفاوض والمقاومة هو حل زمني ممتاز تضطر إليه أطراف الصراع في كثير من الأحيان، إذ يرى كل طرف فيه فرصة لالتقاط الأنفاس، أو الحصول على بعض المكاسب بثمن أقل.
وأخيرًا لكي لا يقتلنا الحزن، فإن مقارنة سريعة بين واقع القضية الفلسطينية الآن وبين واقعها عقب النكبة وعقب حرب يونيو 1967 يفيد أن وضعها الحالي –ومنذ الانتفاضة الأولى بالتحديد- أفضل من الوضعين السابقين، على الرغم من أن القضية تمر الآن في حقل من الألغام؛ والسبب في هذه المفاضلة هو:
- أن المقاوم الفلسطيني يملك قدرة على الفعل قد تبدو الآن ضعيفة، لكنه لم يكن يملكها من قبل أصلا.
- كما أن آباء إسرائيل الكبار –وآخرهم شارون- قد ماتوا في الواقع دون أن تلد الدولة العبرية كفاءات مثلهم.
- إضافة إلى أن جميع المحللين الاقتصاديين والسياسيين يتوقعون أن تغير الأزمة المالية العالمية الحالية من ميزان القوى في العالم، وهو ما قد يرد أميركا –الظهير القوي لإسرائيل- إلى كثير من الانزواء الذي كانت عليه قبل الحربين العالميتين.
قيل: "غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. وولَّى أبو مسلم (الخراساني) رجلاً ناحيةً فقال له: إياك وغضبة السِّفْلة فإنها في ألسنتها، وعليك بغضبة الأشراف فإنها تظهر في أفعالها".

الجامعة الإسلامية بباكستان شاهدة على وسطية الإسلام

هذا الموضوع عبارة عن حوار صحفى أجرته صحيفة العرب القطرية مع الدكتور نبيل الفولي

2008-12-19 الدوحة – نعيم محمد عبد الغني
 نود أن يعرف القارئ نبذة عن الجامعة الإسلامية وقصة إنشائها
● أقيمت الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد قبل قرابة ثلاثة عقود من الزمان، وكان القصد من هذا المشروع أن يكون احتفالا بدخول المسلمين إلى القرن الخامس عشر الهجري على هيئة مؤسسة تعليمية تقدم المعارف والثقافة الإسلامية بلغتها الأصلية والأولى؛ أعني العربية، وبمنهج وسطي يبتعد عن طرفي الغلو والتفريط.وكان المستهدَف هو إنشاء سلسلة من الجامعات المماثلة في أنحاء العالم تُقدَّم كمؤسسات تعليمية راقية للعلوم العربية والإسلامية، ويُجمَع فيها جمعًا متوازنًا بين الأصالة والمعاصرة؛ فمثلا يدرس الطالب في كلية الشريعة والقانون الفقه وأصوله إلى جانب القانون وفلسفته، وفي كلية أصول الدين يدرس القرآن والسنة إلى جانب الإنتاج الفكري للبشر في مختلف عصوره مع خلفية من العلوم الاجتماعية الحديثة.وأنشئت الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا بالفعل، وسبقتها الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد، وبقيت بقية أجزاء المشروع العالمي الكبير أفكارًا تنتظر التنفيذ، بل إن الجامعتين المذكورتين ما زالتا في طريق النمو والاكتمال. وأرى أن سلسلة الجامعات الإسلامية العالمية مشروع واعد ومهم؛ إذ يقدِّم صورة مشرِّفة للعالم الإسلامي ومعارفه التراثية.
 هل شجعت الحكومة الباكستانية إنشاء الجامعة الإسلامية ؟
● دعمت الدولة الباكستانية الجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد عند تأسيسها، وكانت تسعى في عهد الرئيس الراحل محمد ضياء الحق إلى أن تكون الجامعة عونًا لها في مشروعها الكبير لتطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان، فضمت أولا كليات الشريعة والقانون وأصول الدين واللغة العربية، إضافة إلى أكاديمية الشريعة وأكاديمية الدعوة ومعهد الاقتصاد ومعهد اللغات الذي اعتنى بصورة كبيرة بتعليم العربية لغير الناطقين بها.ومن ألوان الدعم المهمة التي قدمتها باكستان للجامعة التي تستضيفها على أرضها: أنها ضمّنت دستور الدولة نفسه ضرورة وجود الجامعة الإسلامية العالمية بوصفها وأهدافها المحددة دون الجامعات الوطنية الأخرى، ومنها جامعة البنجاب العريقة، والتي تُعَد أقدم جامعة في جنوب آسيا عامة. واعتُبرت الجامعة الإسلامية أيضًا كيانًا مستقلا له مجلس أمناء يرأسه رئيس الدولة، ويضم مجموعة من كبار العلماء والشخصيات الإسلامية؛ ومنهم: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عبد الله عمر نصيف، والدكتور أحمد محمد العسال، والدكتور أحمد الطيب، والشيخ يوسف الحجي، وغيرهم.
 هل تنشر الجامعة الفكر الوسطي بين أبناء باكستان أم أنها تستضيف طلابا من الدول الإسلامية كافة؟
● تضمن ميثاق الجامعة ضرورة أن يكون ثلثا الطلاب على الأقل من خارج الدولة التي تحتضنها، وقد استفادت من هذا البند أعداد غفيرة من المسلمين الأفارقة والآسيويين والأوربيين.كما منحت بينظير بوتو - رئيسة الوزراء الباكستانية الراحلة - الجامعةَ مساحة أرض واسعة تساوي حيًا كاملا من أحياء العاصمة، ولا زال جزء كبير من هذه المساحة خاليًا يتيح للجامعة مزيدًا من الاتساع والتمدد.وقد خرجت النسخة الأولى للجامعة رائعة؛ جامعةٌ عربية اللسان بلغتها وأساتذتها فوق أرض عجمية يعشق أهلها وزوّارها العربية وعلومها، وباقةٌ منوعة من الطلاب ينتمون إلى أكثر من خمسين دولة في آسيا وأفريقيا وأوربا؛ خاصة من إندونيسيا والصين وتايلاند وأفغانستان والصومال وغرب أفريقيا.وخرَّجت الجامعة أجيالا طليقة اللسان والقلم بلغة الضاد؛ حتى صح وصفها بأزهر آسيا بدلا من «دار العلوم – ديوبند» في الهند، والتي لقبها العلامة محمد رشيد رضا بأزهر الهند قبل ثمانين سنة.
 يعني هل تعتبر الجامعة ممثلة للفكر الأزهري المعتدل الذي انطلق من مصر بلد الأزهر، خاصة أن مجلس أمنائها منهم الأزهريون، ونسمع عن كثير من الأساتذة الأزهريين يدرسون فيه؟
● أريد أن أقف هنا عند وصف الجامعة بأزهر آسيا؛ فنحن جميعًا نحِنّ للعهد الزاهر لأزهر القاهرة، ونرجو أن يستعيد ماضيه المجيد، ويعود منارة للعلوم الإسلامية والعربية، ومنبعًا لتخريج كبار المثقفين والعلماء والوطنيين كما كان – مع هذا، فإن الجامعة لا تقدم نفسها باعتبارها بديلا عن الأزهر، بل تعتبر نفسها امتدادًا لرسالته واستكمالا لدوره؛ خاصة أن كثيرًا من الأساتذة الذين عاشوا للجامعة الإسلامية العالمية وفيها، وشاركوا في إنشائها، ونهضوا بها زمنًا طويلا تدريسًا وإدارة - هم من أبناء الأزهر المخلصين، بل العاشقين له؛ كالدكتور حسين حامد حسان، والدكتور أحمد العسال، والدكتور حسن محمود الشافعي.
 إذا كانت الجامعة بهذا الرقي الفكري، فهل ما زالت محافظة على هذا التميز أم أن مشكلات تواجهها؟
● الجامعة الإسلامية العالمية فقدت مع الوقت العناصر التي حققت لها تميّزها في المنطقة التي تحتضنها، وأول ذلك الأساتذة العرب، فبعد أن كانت عامرة بهم شيبًا وشبانًا، صاروا الآن بالنسبة لمجموع أساتذة الجامعة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود. ومع وفرة العلماء الباكستانيين المختصين في العلوم الشرعية والعربية، إلا أنهم لا يُستعاض بهم عن الأساتذة العرب؛ لأن الأُوَل يفهمون العربية مكتوبة ومقروءة فقط في العادة، لكنهم لا يتكلمون بها، مما يحرم الطالب من التواصل المباشر مع الفكرة بلغتها الأصلية.تعاني الجامعة من مشاكل منها ازدواجيةالتعليم، ففي عهد الرئيس الباكستاني غلام إسحاق دُعيت الجامعة إلى إدخال التعليم الحديث فيها؛ تبرئة لها من أن تكون جامعة أصولية تقدم الزاد الفكري للإرهاب، فأنشئت كلية الحاسوب وكلية السياسة والاقتصاد وكلية الهندسة، وغيرها. والحقيقة أن هذه الكليات الجديدة كانت فرصة لتوفير دعم مالي للجامعة، إلا أنها قامت بجزء قليل منهوتبع هذا كله تراجع في الاهتمام باللغة العربية وعلومها وعلوم الشريعة الإسلامية كذلك وطغت الكليات الجديدة على الجامعة بلسانها العجمي واهتماماتها المختلفة عن الرسالة الأصلية للجامعة.كذلك أثرت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها باكستان على الجامعة؛ فقد حصلت الجامعة هذا العام مثلا على جزء قليل من ميزانيتها التي بدأت الدولة تقدمها لها منذ عامين، مما أثر على مشاريعها التوسعية، وتوقف البناء في بعض مرافقها الجديدة، وصار بها مئات الطلبة بلا مأوى في مدينة شديدة الغلاء؛ خاصة ما يتعلق بإيجار المساكن.
 إذا الجامعة تتعرض لظروف كثيرة أثرت على رسالتها ومنها الأزمات الاقتصادية، فما أصل المشكلة؟
● الحقيقة أن الجامعة مرت بأزمات عديدة ليس هذا أولها، وأصل المشكلة أن قدر الجامعة أن تُقام في منطقة قلقة سياسيًا منذ عقود طويلة؛ وبسبب هذا فإن كل ما تتَّهم به باكستان تُتَّهَم به الجامعة، وكل خبرة عن طبيعة الشعب الباكستاني – وكثير منها ليس دقيقًا – تصير حكمًا ينسحب على الجامعة كذلك؛ ولأجل هذا اتُّهمت الجامعة بالإرهاب في الداخل والخارج، ودافع عنها رجال الفكر والسياسة في الداخل والخارج ممن لهم خبرة ومعرفة مباشرة بالجامعة ورسالتها ومناهجها.والجامعة تستقبل بعض طلابها من المدارس الدينية التقليدية في باكستان، وهم متهمون بالتطرف والإرهاب، والحق أن هذا حكم ظالم وعام في حقهم، ولي خبرة مباشرة بهم من خلال تدريسي لهم سنوات عدة؛ فقد يصح أن نصفهم بالجمود والتقليدية أو بالحماسة الدينية الزائدة في عمومهم، إلا أن هذه الأوصاف وأشد منها تنطبق على ملايين المتدينين من الهندوس في الهند والمسيحيين في الولايات المتحدة واليهود في فلسطين المحتلة وأميركا، وليس الحل بأن نحكم على طلاب هذه المدارس بالإعدام النظري؛ فضلا عن الإعدام الحقيقي، بل الأنسب في رأيي أن يُعرَّضوا لدفقات من التحديث لا تمسخ رسالتهم، وتخففُ من تقليديتهم، وتؤهلهم بصورة أكثر مناسبة للعطاء الرشيد.
 إذا كانت الجامعة ممثلة للدول العربية والإسلامية بالفكر المعتدل ألا تستحق من هذه الدول أن تدعمها لتقيلها من عثراتها؟
● الجامعة منذ أُنشئت وهي تتلقى دعمًا عربيًا سخيًا؛ سواء بإمدادها بالأساتذة، أو الإنفاق على إقامة منشآتها، وتقديم المنح لطلابها، وآخر ذلك ما قدمته مؤسسة آل مكتوم بالإمارات العربية من مساعدة سخية لبناء مبنيين كبيرين لسكن الطالبات تكلفا مليونين من الدولارات، كما وافقت وزارة الأوقاف القطرية مشكورة على إقامة مبنى أكاديمي يُخصَّص لطلاب كليتي الشريعة وأصول الدين، وهناك سعي لدى بعض الأطراف في المملكة العربية السعودية لتشييد المسجد الكبير للجامعة، والذي يتسع لآلاف المصلين.إلا أن هذه المجالات التي ما زالت في حاجة إلى المساعدة؛ خاصة المباني السكنية للطلاب والطالبات، لا ينبغي أن تنسينا جوانب أخرى لا تستغني عنها الجامعة في أداء رسالتها الراقية في خدمة التعليم الإسلامي. ولعل الجامعة تحتاج من الغيورين أن يتعاونوا لإقامة مشروع وقفي ضخم له إدارة مستقلة وخاصة به، نضمن من خلاله استمرار الجامعة في أداء رسالتها العالمية -بإذن الله- دون أن تعوقها عن ذلك التحولات السياسية والاقتصادية التي لا تتوقف.

لغزة وهي تغزل ثوب التاريخ


ليس المطلوب منا –لا فرضًا ولا نفلا- أن نعلم الغيب، ولكن علينا ضرورةً أن نفقه السنن الكونية وسنن الاجتماع البشري، ونقرأ الحاضر والمستقبل في ضوئها، ونتحرك ونتصرف دون مصادمتها.
والفرق بين الأمرين –علم الغيب وفقه السنن- جد كبير، إذ إننا لسنا سحَرة ولا منجِّمين يدّعون معرفة ما سيأتي، كما أن زمن الأنبياء الذين كانوا يُطْلَعون على شيء من الغيب قد مضى. أما فقه السنن، فهو نتاج لمراكمة الخبرات المباشرة وغير المباشرة في الذهن الإنساني، وحصاد للقراءات المكرورة في المشهود من صفحات الكون والمحفوظ في صفحات الكتب وعقول الرجال. إنها حركة نفسية وعقلية دؤوب تحقق للإنسان جانبًا مهمًّا من معناه.

ولا ينبغي أن نفهم أن القول بهذه السنن التي تحكم الاجتماع البشري قول بالجبر، وأن الإنسان لا يملك من أمر نفسه شيئًا، فهو –وفقًا لهذا التوجه- مسيَّر في فعله وتركه، ونتيجة فعله محتومة ومعلومة سلفًا كما نعلم حركة الشمس والقمر ودورة الماء في الطبيعة وغير ذلك– أقول: لا ينبغي أن نفهم أن القول بهذه السنن قول بالجبر، إذ إن هناك فرقًا واضحًا بين أن نقول بالانضباط الناموسي العام لحركة المجتمع الإنساني، وبين القول بالجبر في الفعل الفردي.
وتوافقًا مع هذا الفقه للسنن لا ينبغي أن نقرأ الأحداث ولا المشاهد التاريخية المتصلة بعزل بعضها عن بعض، ولا أن نقتطع المواقف من سياقاتها، ولا أن ننشغل بالقشور عن اللباب، بل تُوصَل الفروع بأصولها وتُربَط بجذورها، ويُفهَم مجمل المستور بالمكشوف والمجهولُ بالمعلوم، ويوقف على اللب والحقيقة بالنظرة العميقة والحدْس الصادق.
وها هي غزة بمدنها وقراها ومخيماتها تغزل للتاريخ ثوبًا، وتسجل فيه سطرًا مهمًّا في ظروف دقيقة وشديدة الصعوبة، دفعت صعوبتها بعض المحللين العرب –فضلا عن غيرهم- إلى اعتقاد أنه لا جدوى من مقاومة الحصار القاسي المضروب عليها، وأنه ليس أمام غزة إلا خيار واحد، وهو النزول على شروط الاحتلال، حتى يُفَك الحصار.
بل بدا من أهل غزة أنفسهم من أصابه الإحباط من شدة وطأة الحصار، وأنه يجب على الحكومة (المقالة) وبقية الفصائل الفلسطينية في غزة أن تقبل شروط التهدئة كما تقدمها إسرائيل، والخيار الآخر –حسب هذا الرأي- هو الموت والفناء.
وبعض أولئك المحللين –قولا للحق- قصد ألا نترك غزة لمصيرها "المحتوم" وأن يتحمل العرب والمسلمون مسؤوليتهم التاريخية التي لا خيار لهم بين تحملها والتخلي عنها.
وأما أهل غزة، فقد يئس كثير منهم من أن يفعل العرب والمسلمون لهم شيئًا ذا تأثير، فبدا لبعضهم –ولهم عذرهم شيئًا ما في بحر الآلام التي يعانون منها– أن الاستسلام لشروط الاحتلال هو الحل لفك الحصار، مع أن الذي أخرج الاحتلال من غزة هو نفسه الذي يشترطون إيقافه لفك الحصار، ألا وهو المقاومة.
فهل صدق أولئك المحللون في نظرتهم المتشائمة والمدعومة بواقع معقد يحمل من دواعي التفاؤل أقل بكثير مما يحمل من دواعي التشاؤم؟
الحق أن النظر إلى المسألة في ضوء السنن التي تحكم الفعل والانفعال المتبادل بين الجماعات البشرية قد يعيننا على تقديم نظرة مؤصَّلة في هذه القضية، وأهم هذه السنن ما يلي:
- أن غلبة الفعل من طرف في صراع ما لا يعني أنه لا ينفعل، بل كل عملية تفاعل لا بد أن يفعل كل طرف فيها بقدر، وينفعل بقدر أيضًا. {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

أن التحدي يحفز قوى الإنسان على الفعل بمستوى مميز ومختلف عن المعتاد منه، ولدى الإنسان من المواهب النفسية والبدنية ما يساعده على هذا عادة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
- أن صعوبة الانتقال من حال إلى حال أثناء الفعل والانفعال الحياتي هي صعوبة عامة في كل انتقال إلى ما هو أدنى، فحتى التاجر الذي يضطر إلى تقليص نشاطه التجاري يجد صعوبات ما في بيته وعمله أثناء عملية التكيف مع الوضع الجديد. {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
- أن الأوضاع المعيشية الصعبة قد تبدو في أولها شديدة الوطأة على أهلها، إلا أن قدرة فعل الإنسان –فردًا ومجتمعًا- على التكيف مع مستويات متباينة من الحياة يضمن له الاستمرار بصورة مذهلة. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.
- أن الإنسان إذا وجد أنه لم يبق شيء يخسره إلا البقاء والحياة نفسها، فإنه لا يحب أن يفقد كل شيء وحده.
- أن الإلف بالنسبة للطرف المغلوب يُفقِد كثيرًا من المخاطر معناها عنده، في حين أن الإلف بالنسبة للغالب الذي يُقاوَم قد يصيبه مع الوقت بالارتخاء، وقد يفقده طولُ الصراع وتتابع فصوله القدرة على فهم أي جدوى منه.
- أن فعل الذات يحرِّك فاعلين آخرين متوقَّعين وغير متوقَّعين، ويدخلهم في المعادلة بدوافع إنسانية أو دينية أو قومية أو غيرها، مما يؤثر في مستويات التفاعل عمومًا واتجاهاته ونتائجه بدرجة أو أخرى.
وإذا طبقنا هذا على حال غزة، فسنجد أنه ليس عامل من هذه العوامل، إلا وهو يعمل في صالح أهل غزة، على الرغم من الضريبة العالية التي يدفعونها في مقابله.
وهذا جزء من طبيعة الصراع بين الجماعات الإنسانية المتصارعة، ولعله يحول دون بقاء المنتصر من هذه الجماعات منتصرًا دائمًا والمنهزم منهزمًا باستمرار، بل تُتَداوَل المواقع والمواقف بين الأمم من زمن إلى آخر تبعًا لمؤهلات وعوامل متداخلة ومعقدة.
ولسنا هنا في نطاق من يتلهى بالتنظير، ولا يقدّر قيمة المعاناة التي يجدها أهل غزة تحت وطأة الحصار، ولا عمق المرارة التي في حلوقهم جراءَ التخلي العربي الرسمي عنهم والعجز العربي الشعبي عن إغاثتهم، مع المحاولات المشكورة في هذا، لكن من الضروري أن يفهم جميع الغيورين أن المقاومة هي الطريق الوحيد لحفظ حقوق الشعب الفلسطيني، وأن التأبي على الاستسلام ضروري لكل قضية تحررية، سواء قاوم أهل غزة وحدهم، أو قدَّم لهم الغرباء والقرباء يد العون، فالمقاومة هي خيار الحياة، وأما الاستسلام لشروط الاحتلال فهي خيار الموت المخزي لهذا الجيل على الأقل.
وإذا كان الحصار ومنع المؤن والزاد من أشد أساليب الحرب تأثيرًا، وقد هزمت به روما هانيبال بعد أن أعجزها ودوّخها زمنًا طويلا فقد انتصر كثير من المحصورين في القديم والحديث على خصومهم بالصبر والتماسك الداخلي، وفي أوضاع أشد خطرا من وضع غزة الآن.
وإن كان الحصار القائم على غزة أشد تعقدًا وأكثر تنوعًا في العناصر المشاركة في صناعته، فإن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان –والتي تبقى في العادة حبرًا على ورق- تحرج كثيرين وتضعهم في مأزق، خاصة مع رسائل الإعلام الفاضحة للمأساة التي يصنعها الحصار.
إن غزة بمقاومتها وصبرها تحت الحصار الذي يُرفَع حينًا ويُضرَب حينا، تؤدي إلى مزيد من غليان المراجل في المنطقة، ولا يُستثنى من ذلك دولة الاحتلال ولا الدول العربية، حتى إن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك ينتهج سلوكًا قاسيًا تجاه غزة دغدغة لمشاعر الناخب الإسرائيلي، وكسبًا لصوته لصالح حزب العمل.


والأنظمة العربية من جهتها واقعة في حرج التوافق مع المنظومة الدولية التي صيغت للمنطقة، وإقناع شعوبها التي ترقب المشهد ساخطة في الوقت نفسه.
والعجيب في هذا الأمر أن تحاول بعض هذه الأنظمة الجمع بين الأمرين، أعني التوافق مع الضغوط الدولية وإقناع شعوبها بمواقفها، ففي الوقت الذي تشجب فيه هذه الأنظمة ضرب الحصار على غزة علنًا، فإنها تمنع بنفسها وبالقوة المفرطة وصول أي معونات إنسانية عن طريقها أو بيد مواطنيها إلى من يقفون على حافة الموت من المرضى والجياع في غزة.
وقد كلَّت الأقلام والألسنة من نقد هؤلاء، وتذكيرهم بمسؤولياتهم الدينية والقومية والتاريخية، وأن غزة جزء من الأمن الإستراتيجي لجميع العرب، وأن التخلي عنها تخلٍّ عن كل شيء فاضل ومهم.
وأرى أن مواصلة الكتابة والمناشدة والتذكير في هذا الطريق صارت عبثًا من العبث الذي يضيع معه الوقت والجهد دون فائدة. والأجدى من ذلك هو الضغط على المعادلة من كل أطرافها وبكل الوسائل، حتى يضطر هؤلاء إلى التحرك تحت سياط الحرج.
إن غزة بحجمها الصغير يمكن أن تحرك بصمودها الكبير كثيرًا من السكون في العالم المحيط بها، وهذا –كما سبق القول– يشرك فاعلين حقيقيين أكثر في معادلة صنع الواقع في غزة والمنطقة، مما يؤكد لنا أكثر فأكثر أن غزة المحصورة ليست أمام خيار واحد.

الشعر العربي في شبه القارة الهندية



حين انطلق الإسلام في أرجاء العالم التي سعدت به لم ينطلق وحده، بل أخذ اللغة العربية في صحبته، يُتلَى بها القرآن الكريم، وتُروَى بها السنة الشريفة، ويتخاطب بها الفاتحون، ولولا السياسة وتقلباتها وأمور أخرى تتعلق بضعف كثافة الهجرات العربية وتغير لغة الفاتحين في الأجيال التالية لتعربت مناطق من العالم أكثر اتساعًا مما نجد الآن.


لكن العربية بقيت في كل الأحوال لغة العلوم الدينية والدنيوية الأولى طوال فترات التفوق الحضاري للمسلمين، وكانت تصنع لنفسها في بعض المناطق خنادق خاصة بها في أوساط العلماء والطلاب وسط خضم من اللغات الأعجمية التي تأثرت بها تأثرًا لم يتوقف عند حدود استعارة الألفاظ، بل استعارت منها ألوانًا أدبية وبلاغية متعددة أيضًا.



تجربة فريدة



وللغة العربية في شبه القارة الهندية تجربة تمتاز بتفرد عجيب، فعلى الرغم من أن لغة القرآن لم تكن يومًا ما لسان عموم السكان هناك، سواء تكلمنا عن المسلمين أو الهندوس، فقد سجلت هناك وجوهًا من التفرد - في الدرجة على الأقل - أهمها ما يلي:
1 - تسربت نسبة كبيرة من الألفاظ العربية إلى اللغة الهندية عن طريق اللغة الفارسية التي سبقت إلى استعارة هذه الألفاظ من لغة المسلمين الأولى، حتى بلغت تلك النسبة حوالي 40 في المائة من ألفاظ الأردية.
2 - نشأت طائفة كبيرة من أهل شبه القارة ذات صلة بالعلوم الشرعية تتقن من مهارات العربية السماع والقراءة دون النطق والكتابة، فإذا قرءوا كتابًا عربيًا أو تحدث إليهم أحد بهذه اللغة فهموه تمامًا، لكنهم يعجزون عن البيان العربي بألسنتهم بشكل كافٍ.
3 - كثرت المؤلفات العربية لعلماء شبه القارة كثرة لافتة للنظر، وذلك في علوم الشرع واللغة على السواء، وتفردوا في هذا الباب بأشياء تندر أشباهها لدى الشعوب والأقليات الإسلامية الأخرى، فقد اهتموا بشرح سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة استكمالا لجهود السابقين في شرح صحيحي البخاري ومسلم، وألفوا في بعض دقائق المسائل والقضايا مثل: كاشف الظلام عما يتعلق بالألف واللام، والقول المأنوس في القاموس، كلاهما للمفتي سعد الدين (ت 1294هـ/ 1877م)، وقصيدة لامية المعجزات (نظم معجزات النبي الكريم في حوالي 300 بيت) لحبيب الرحمن العثماني (ت 1348هـ/ 1930م)، ونظم أسماء الله الحسنى، ونظم أسماء النبي (صلى الله عليه وسلم) للشيخ محمد موسى روحاني بازي (ت 1419هـ/ 1998م).
4 - أنجب شبه القارة ولا يزال ينجب الكثير من الشعراء الذين نظموا قريضهم بالعربية، وهذا ما تهتم هذه السطور بالحديث عنه.
لم يغب عن النظام التعليمي الذي استقر في الهند على صورة «درس نظامي» الشهير هذا الرباط المقدس بين الإسلام واللغة العربية، فأولَوا علوم اللغة العربية وأدبها اهتمامًا بارزًا إلى جانب العلوم الشرعية، حتى صارت دراسة مقامات الحريري وديوان أبي الطيب المتنبي وديوان الحماسة وديوان حسان بن ثابت من ثوابت هذا المنهج.
وقد استثارت هذه الدراسة الأدبية قريحة المتعلمين، حتى شارك كثير منهم في قرض الشعر باللسان العربي، ولعل الاهتمام بحفظ هذه المتون الأدبية واستظهارها قد أسهم في تعزيز هذا التوجه نحو الشعر العربي.



سمات العربية بالهندية



ومن أهم السمات التي يمكن ملاحظتها على العربية وشعرائها في شبه القارة الهندية ما يلي:
أ- غلب الاهتمام بالعلم الشرعي على أكثر هؤلاء الشعراء، فمنهم المحدث والمفسر والأصولي والفقيه، ويندر أن نجد من بينهم من غلب عليه الأدب، ومن النوع الأخير تبرز شخصية شيخ الأدب «محمد إعزاز علي» (ت 1374هـ/ 1955م) صاحب حاشية «السحاب الصيب على ديوان أبي الطيب»، و«حاشية الفراسة لمن طالع ديوان الحماسة»، و«نفحة العرب، والواقعات المحيرة للبلاغة العربية».
ب- التقليد واقتفاء أثر الشعراء السابقين، وما يتبع ذلك من الركاكة، مع فخامة الألفاظ وغرابتها في أحايين كثيرة، حيث بدا الشعر القديم نموذجًا لا يقصر الشاعر الهندي في احتذائه، حتى في موضوعاته وطرق تعبيره، فانحصر أغلب شعرهم في المدح والرثاء. ولعل من أسباب الضعف الذي عانى منه أكثر هذا الشعر أيضًا - إضافة إلى غرابة لغة القريض على طباعهم - أن الشاعر الهندي الذي كتب بالعربية كان منغمسًا في العلم والتعليم، فانعكس ذلك في شعره. ويمكن أن تلاحظ على شعراء العربية في شبه القارة أن أسلوبهم العربي - في الشعر والنثر على السواء - يجود أحيانًا بشكل ظاهر لا مرية فيه، إلا أنه يسقط أحيانًا أخرى في حضيض الركاكة والصنعة، ويعز أن تجد فيهم خلال القرنين الأخيرين من يكتب على الدوام عربية خالصة لا عجمة فيها.
جـ- كثير من شعراء شبه القارة مقلون في نظم الشعر العربي بالقياس العام لكثافة الإنتاج الشعري بالنسبة إلى متوسط أعمار الشعراء، وقياسًا إلى عموم نشاطهم الثقافي والعلمي، ومن هنا خلا شعر الهند العربي من فحل ينضم إلى قافلة كبار الشعراء ذوي اللسان العربي.
د- كتابة الشعر بلغات أخرى (الأردية والفارسية خاصة) يكاد يكون وصفًا عامًا لجميع شعراء شبه القارة، مع تفاوت مستوى الإبداع لديهم من حيث كونه مطبوعًا أو مصنوعًا من لغة إلى أخرى - وهي مسألة جديرة بدراسة خاصة، أعني تفاوت مستوى شعر الشاعر الواحد حين يكتب بأكثر من لغة، وهو أمر يمكن ملاحظته حين نقارن شعر عبد الرحمن الرومي الذي كتبه بالعربية مقارنة بروائعه الفارسية، بل يمكن أن نلاحظه حين نقارن إبداع أحمد شوقي للشعر العامي بما سطره في تاريخ الأدب من روائع الفصحى.



شعراء وأشعار



ومن أشهر شعراء شبه القارة الهندية الذين أبدعوا شعرًا عربيًا: ولي الله الدهلوي صاحب كتاب «حجة الله البالغة»، وغلام آزاد البلجرامي الشهير بحسان هندوستان، والأمير العالم صديق حسن خان، والشيخ أنور شاه الكشميري أحد علماء ديوبند المشاهير.
واللافت للنظر هنا التقاء أصحاب الاتجاهات الفكرية والدينية المختلفة في شبه القارة الهندية على قول الشعر بالعربية، على اختلاف وتفاوت بينهم في القيمة الفنية لهذا الشعر وفي كميته.
ومن نماذج هذا الشعر التي تعبر عن تلك الخصائص: قول المفتي محمد شفيع - رحمه الله - في وداع بعض أصدقائه الذاهبين إلى الحج:


يا واقفًا لوداع وهو محتار ماذا وقوفك والأحباب قد ساروا

ما لي أراك قرير العين جامدها وليس يبكيك أطلال وآثار

ألا يحثّك طبل للرحيل ولا يهيج شوقك أذكار وتذكار

ألا يهمك أن الركب مرتحل وحمِّلت لجميع الأصحاب الأكوار

قطيب في عشي طاب مسراه لطَيبة ملؤها للحق أنوار...

ما لي أُرى بزقاق الهند مضطربًا وللرفاق إلى البطحاء تسيار

كيف التذذتَ بنوم بعد ما رحلوا وكيف ألهاك سمر ثم سمار

هلاّ انتهجت غداة البين منهجهم وكيف آوتْكَ فينا بعدهم دار


يا صاحبيّ وقوفًا بالذي سبقت له عهودكم لا مسّكم عار





هل تُبْلغان سلامًا من قريح جوىً ودّعتموه فريدًا وهو مختار



ويظهر صدق العاطفة التي أملت على الشاعر هذه الدفقة الشعرية الجميلة، خاصة أنه ما عاد يصدق أنه ودع الركب المسافر إلى الحج دون أن يكون واحدًا من أفراده، فوضعَنا وسط هذه المفارقة حيارى معه يحدونا الشوق مثله إلى الأرض الطاهرة.
ويقول الأستاذ محمد ناظم الندوي - رحمه الله - في قصيدة مناجاة بعد أداء مناسك الحج:


بسطت يدي راجيا منك غفرانا وجنة فردوس لديك ورضوانا





وتبت إليك من جميع مآثمي فرحماك رحماك وعفوًا وتحنانا


حداني الحنين سائقًا نحو بيتك العتيق الذي قد شيد صدقًا وإيمانا





فطفت به شوطا وشوطا وثالثًا وأربعة أشواط وقد تم حسبانا


ذكرتك خاليًا ففاضت مدامعي ولذت دموع العين تُسكَب تهتانا





وعهدي بعيني لا تجود بعبرة فأنى لها نبع تبجس فيضانا


لعل دموع العين تغسل حوبتي فتقبل توبتي وتنقي أدرانا



والشاعر من تلاميذ الشيخ محمد تقي الدين الهلالي الذين تلقوا عنه العربية وعلومها في الهند خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وفي هذه المقطوعة الشعرية يبدو تقليديًا في مناجاته التي أعقبت أداء فريضة الحج، وإن كشفت لنا عن التجديد الذي تحدثه الفريضة الكريمة في نفس الحاج، حتى يجود بدموع خشية كان قد جمَّدها طول العهد وكثرة مقارفة الذنوب.
ويقول الشيخ عبد الحي اللكنوي - والد الشيخ أبي الحسن الندوي «في مدح النبي» (صلى الله عليه وسلم):


خير البرية رأسهم ورئيسهم ابن الكرام أخو الندى والسؤدد


رحب الذراع حليف مجد سابغ خدن الصلاح شقيق عزٍّ سرمد


المصطفى المختار من تمت به نِعَمُ المليك الواحدِ المتوحِّد


وهذا اللون من القصائد المخصَّص لمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) شائع في آداب المنطقة بكل لغاتها، ويسمونه بالنعت، وقد أُبدعت فيه قصائد ودواوين كثيرة جدًا، حتى أن بعض شعراء شبه القارة قد لا يبدع شعرًا إلا في هذا اللون وحده. والشيخ عبد الحي نفسه لم يُعرَف له سوى مقطوعتين شعريتين، هذه إحداهما، والثانية في رثاء زوجته.
وفي خطاب إلى قادة المسلمين يقول محمد يوسف الكاملبوري:


يا قادة إسلام طال بقاؤكم قوموا وأحيوا ملة إسلام





أجروا نظام سياسة شرعية فيها صلاح رعية وإمام


ومروا عباد الله أن يتدينوا وعليكم بصلاتكم وصيام





وقال الشيخ موسى روحاني بازي في رثاء أحد العلماء:


هلموا يراعًا مع كراريس وأسرعوا لأملي حديث البين والبين مجزع





حديثي أخلائي حديث مماتكم وهذا حديث ذو شجون مروِّع


يدير الدنيا الحِمام على الورى ولم يُنجِ منه الخلقَ حصن ومِدفع





فيا خاطب الدنيا وطالبها احذرن ويا جيرة الموتى أما آن أن تعوا


ألا إنما الدنيا متاع يغرنا تفرِّق جمعًا بعدما يتجمع





فخذ للمنايا - لا أبا لك - أهبة ألم تدر أن الموت ما ليس يُدفَع


غفلنا وليس الموت عنا بغافل يغير ولا يُبقى ولا هو يُخدَع





ألا كل ما تبني، لغيرك تبتني وما تجمع الدنيا، لغيرك تجمع


فطوبى لمن يبني لعقباه دائمًا ويجمع للأخرى ولله يهجع