الأحد، 24 مايو 2009

نمور التاميل ومعضلة الأقليات الدينية والعرقية


لا نتجاوز الحقيقة كثيرا إذا قلنا إن أكثر المشكلات والأزمات السياسية الحادة التي وقعت وتقع في العالم المعاصر مرجعها إلى أمور ذات علاقة بأقلية دينية أو مذهبية أو عرقية، لا تُستثنى من ذلك قارة أو إقليم كبير من أقاليم العالم تقريبا، سواء تكلمنا عن باكستان والهند والفلبين والتبت وسريلانكا ولبنان، أو السودان ورواندا ومالي والكونغو وجنوب أفريقيا، أو أيرلندا وإسبانيا وروسيا ويوغوسلافيا الذاهبة وكندا، وسواء ضربنا المثال بالأقلية الزنجية في الولايات المتحدة الأميركية، أو الأقليات الكردية في العراق وإيران وتركيا، أو السكان الأصليين في أستراليا وبيرو والمكسيك، أو الأقلية المسيحية في مصر، أو الشيعية في بعض دول الخليج.
وقد تكون مطامح الأقلية سببا للمشكلة السياسية، وقد يكون الحيف على حقوقها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية هو السبب في هذا. وربما يدفع الأقلية إلى تأزيم المواقف العالمية أنها تريد إحداث دوي هائل بقدر آمالها في تحصيل "حقوقها" أو بقدر يأسها من ذلك، والمثال يأتي من اغتيال الصرب لأرشيدوق النمسا فرديناند عام 1914، وهو الحدث الذي أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى.
وقد يكون وجود الأقلية على تقاطعات سياسية معينة دافعا قسريا إلى إشراكها في مشكلة ما، وأخيرا قد تجتمع كل هذه العناصر أو أكثرها في حال أقلية واحدة، شأن أكراد العراق والحركة الشعبية في جنوب السودان.


بعد ستة وعشرين عاما من الكفاح المسلح ضد حكومة كولومبو سقط كل شيء، وانتهت تجربة نمور التاميل في سريلانكا نهاية دراماتيكية سريعة بسقوط معاقلهم وقتل قائدهم وكبار مساعديه بيد قوات الجيش السريلانكي، ولكننا لا ندري هل بقي لدى الأقلية التاميلية (الهندوسية) في الجزيرة من يعيد الكرة في مصاولة الدولة والدعوة إلى الانفصال عنها من جديد أم لا؟
يلفت النظر في تجربة التمرد التاميلي الذي امتد أكثر من ربع قرن، أن نهايته كانت أسرع من المدى التاريخي الذي شغلته التجربة، أي أن جدلية المحو ومقاومة المحو التي تقع بين السعي المضاد للخصم والممانعة الذاتية، لم يكن متوقعا أن تصل -خلال حملة عسكرية واحدة- إلى نهايتها بهذه السرعة الكبيرة لتجربة انفصالية ظلت تلح على الاستقلال عن الدولة الأم طوال هذه الفترة، وكانت تتصدر أنباؤها نشرات الأخبار في العالم من حين إلى آخر.
لقد حمت "الجغرافيا الطبيعية" لسريلانكا التجربة الانفصالية للنمور بعض الوقت، ولكنها لم تستطع حمايتها طوال الوقت، وذلك لأن الغابات الكثيفة أعانتهم إلى مدى معين على اتباع أسلوب الكر والفر في مواجهة الدولة واصطياد جنودها ورموزها الكبيرة، والتي لم يُستثنَ منها حتى رئيس الدولة وكبار وزرائه ومسؤوليه، ففي عام 1993 اغتال نمور التاميل الرئيس السريلانكي بريماداسا، وفي عام 2005 جاء اغتيالهم المدوّي لوزير الخارجية التاميلي المسيحي لاكشمان كاديرجامار.
هذا عن الجغرافيا الطبيعية لسريلانكا ووقوفها في صفوف التاميل إلى حين، إلا أن "الطبيعة الجغرافية" للدولة التي لا تعدو أن تكون جزيرة صغيرة ألقتها الأقدار في هذا الموضع النائي من العالم، يسرت أمام الدولة وسائل المواجهة معهم، وحصرتهم في رقعة محدودة شمال الجزيرة وشرقها، وإن احتاج الأمر من الحكومة إلى جهد استخباراتي مكثف وطويل -خاصة بالاستعانة بأنصار الحكومة من التاميليين- لفهم جغرافية التنقل والتحرك التي كان يتبعها المتمردون في هجومهم ورجوعهم، مما حد من عمل الجغرافية الطبيعية في صفوف الأقلية الساعية إلى الانفصال.
لكن ثمة عاملا آخر ذاتيا كان له تأثيره الحاسم في فقدان تجربة النمور القدرة على الاستمرار في مشروعهم الانفصالي عن كولومبو إلى نهايته "السعيدة"، ويتمثل هذا العامل في المهارة العالية والقدرة الفائقة لزعيم التاميل المقتول فيلوبيلاي برابهاكاران على التخلص من أصدقائه الفعليين والمحتملين على السواء.
فعلى الرغم من وقوف رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي وراء إنشاء حركة التاميل وتدعيمها لها سياسيا وعسكريا، ومساندة الحكومات الهندية المتتابعة لحقوق التاميل في داخل سريلانكا، فقد شارك زعيم التاميل بقوة في إفساد الحياة السياسية للجارة الكبيرة بالضلوع في قتل راجيف غاندي الذي خلف أمه في قيادة الهند.
وترجع الأزمة القاتلة بين الطرفين في بُعدها الاجتماعي إلى حالة اغتصاب فردي قام بها أحد الجنود الهنود الذين كانوا يقومون بأعمال المراقبة في إحدى محاولات الهند للتقريب والمصالحة بين الطرفين، حيث اعتدى جنسيا على فتاة من عُرض الأقلية التاميلية.
كثير من الشعور بالمرارة -لا شك- قد أصاب هذه الفتاة نصف المثقفة، فبين إحساسها القومي بأنها وقومها قد اغتُصبت حقوقهم من قبل الأكثرية البوذية، وإحساسها الخاص بأن الصديق القادم لرعاية الحوار بين التاميل والحكومة قد أطلق سعار شهوته الظالم في اتجاهها -بين هذا وذاك- سيطر على الفتاة شعور عميق بالاضطهاد، مع قلة الحول والعجز عن التأثير في خط مستقيم، وهو خليط من المشاعر يولّد في الإنسان قوة واستعدادا هائلين للانتقام والانفجار في خط غير مستقيم، مهما يكن الثمن.
وهذا ما كان بالفعل، حيث عبرت الفتاة المغتصبة البحر بينها وبين الهند في جموع اللاجئين، ولم يكفها في الثأر لمصابها الانتقام من قوة المراقبة العسكرية الهندية في بلادها، فجمعت في جسدها بين الورد والمتفجرات التي أودت بحياة راجيف غاندي أثناء قيامه بدعاية انتخابية حارة في جنوب بلاده عام 1991.

لقد امتزجت المعاناة العامة مع المعاناة الخاصة، فوجدت صداها عند زعيم التاميليين الذي ساعد هذه الفتاة وجنّدها لتنفيذ عملية الاغتيال، لكن ظهر أن هؤلاء انتقموا من قضيتهم قبل أن ينتقموا لها، ودفعوها قبل أن يدفعوا عنها!
ولم يكن من سخريات القدر الكبيرة أن تخرج سونيا غاندي -زعيمة حزب المؤتمر الهندي وزوجة راجيف غاندي- أخيرا، وبعد ثمانية عشر عاما من اغتيال زوجها، لتعبر عن تشفيها لمقتل زعيم التاميل برابهاكاران قائلة: "لقد قتل زوجي وجعل أبنائي يتامى"، وذلك في حومة الانتخابات الهندية الأخيرة التي شارك فيها حزب قومي تاميلي (من تاميل نادو بجنوب الهند) يدعو في برنامجه إلى مناصرة النمور التاميليين في سعيهم إلى الانفصال.
ومن جهة أخرى تخلص برابهاكاران من جميع معارضيه من التاميليين بالاغتيال والتصفية الجسدية، خاصة زعماءهم الذين قبلوا الجلوس مع حكومة كولومبو للبحث في إجراء مصالحات تحت إشراف الهند في عهد راجيف غاندي، وبالمثل قام بتصفية حلفائه من المسلمين، وطرد أكثر من مليون مسلم من ديارهم في الشمال في عملية تصفية عرقية مؤلمة أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
ومثل هذه الشخصية يصدق عليها وصف أنه "عدو نفسه"، فهو بتصرفاته غير المحسوبة يجرد نفسه من مكامن القوة، ويكثر من أعدائه، ويزرع الأرض من تحت قدميه بالألغام، ويجعل القوة -لا الفكرة الوطنية ولا المحبة الإنسانية- أساس الربط بين أفراد جماعته، مما حوله من قيادة وطنية إلى رئيس عصابة، وحولهم من جماعة ثورية إلى جمعية اغتيالات لا حق لها في الدفاع عن حقوق وطنية مستباحة.
وهكذا تعاون ثأر شخصي ضاق به صدر فتاة، وتفكير مندفع لزعيم ثوري يفكر ببندقيته لا بعقله، والطبيعة الجغرافية للدولة السريلانكية، وعمل استخباراتي طويل ومنظم للجيش السريلانكي في معاقل التاميل وأساليبهم القتالية، تعاون كل هذا على وأد حُلم النمور في الانفصال، ولو إلى حين.

معضلة الأقلياتألححت فيما سبق على عدم إغلاق الباب تماما أمام إمكان عودة التاميل إلى القتال من جديد في صورتهم القديمة أو على صورة أخرى، وهذا ما يحدث بعضه بالفعل، وهو ما تمليه طبيعة التجربة التاريخية لحركات الانفصال أيضا. إذ إن النهاية الحزينة لفصل من فصول أي من هذه التجارب لا يقضي عليها بالضرورة، وإن أسكت صوتها الجهوري فإلى حين؛ إلا بشروط تبدو علاجا ناجعا -وإن احتاج إلى احتياطات- لمشكلة الأقليات بأشكالها المختلفة.
نعم، تبدو مشكلة الأقليات الدينية والعرقية من أعقد المشكلات في كيان الدولة الحديثة، ويبدو في نظر بعض المحللين أنه يكفي لعلاج تلك المعضلة أن نطبق قوانين محايدة في المجتمعات ذات الانتماء المتعدد حتى يرضى الجميع، فنطبق في مصر مثلا قوانين علمانية حتى لا يغضب مسلم أو مسيحي لو طبقنا أحكاما تخالف دينه، ونتخير اللغة الإنجليزية لغة قومية لباكستان حتى لا يغضب الناطقون بالأردية أو السندية أو البشتوية إذا تخيرنا للدولة لغة رسمية غير لغتهم!!
ولكن لا يبدو أننا نصيب المِفْصل الحقيقي للمشكلة بمثل هذه الحلول، وما زدنا على أن سوينا بين جميع الأطراف من حيث مخالفة مبادئ دستورهم الوطني لهوياتهم الثقافية والدينية، بدلا من أن توافق فريقا وتخالف آخر.
وأهم من ذلك أنه ليس المهم بالنسبة للأقلية هو أن يكون نظام الحكم ملكيا أو جمهوريا أو حتى ثيوقراطيا، ولكن المهم هو موقعها في هذا النظام، وهي مسألة تحدد -في رأيي- الأساس الأخطر لتحويل الأقليات إلى قوى فاعلة في الجسم الوطني تعزف معه في اتجاه واحد.
وإذا رجعنا إلى المثال السريلانكي سنجد أن الأكثرية السنهالية يقع عليها جانب كبير من المسؤولية عن تمرد التاميل على الحكومة المركزية وسلوكهم هذا الطريق الوعر الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الناس غير مئات الآلاف من المشردين، وعطل التنمية في البلاد زمنًا طويلا، وذلك بسبب تفرقة الأغلبية بين القوميات والأديان، وتوجيه جانب كبير من الاضطهاد إلى المسلمين والتاميل على السواء.

لعلنا لا نجتنب الصواب إذا قلنا إن حل معضلة الأقليات بألوانها المختلفة يتلخص في أمرين رئيسين:
الأول: منح الحرية على التساوي لكل أبناء الوطن الواحد.
الثاني: تبني الدولة لمشروع وطني يشارك فيه الجميع بتحمل مسؤوليته وجني ثماره على السواء.
إن الأقلية لا تنفصل عن جسم الوطن الذي تنتمي إليه إلا إذا شعرت بالغربة في وطنها، أو إذا أغراها طرف خارجي بثمرة أكبر مما تجنيه من حال التوافق مع الأكثرية، وفي كل الأحوال لا نحتاج إلا إلى الإنصاف واليقظة.
إن المساواة والحرية كفيلة بأن تذيب -مع الزمن وخلال عمليات التفاعل الاجتماعي التي لا تتوقف- امتياز الأقلية عن الأكثرية، في حين أن التفرقة والتضييق والاضطهاد كفيلة بتضخيم ذات الأقلية وصناعة قضايا خاصة لها تنفصل بها عن بنيان الوطن وأحلامه.
وأخيرا: من الحق أن نقول: إن الولايات المتحدة الأميركية تضم الآن أكبر تنوع عرقي وديني في العالم، ومع ذلك فهي تقدم نموذجا قابلا لمزيد من الانسجام كلما ضبطت وتيرة العلاقة بين مكونات المجتمع، ولكنه قابل للاهتزاز بقوة إذا لم تُضبَط هذه الوتيرة.