الثلاثاء، 28 أبريل 2009

مصر.. هل تغير موقعها في القضية الفلسطينية؟


قد يكون من المفيد أن نتجاوز المواقف الجزئية التي أبدتها وتبديها السياسة المصرية تجاه الوضع الفلسطيني ومتعلقاته منذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وهي مواقف أثارت وتثير كثيرا من الجدل الساخن بين أنصار ومعارضين من هنا وهناك, نتجاوز ذلك إلى نظرة أعم تبحث في موقع مصر في القضية الفلسطينية عامة، وهل تغير عما كان عليه طيلة عمر هذه القضية؟
وأهمية هذا التجاوز المؤقت للجزئيات أنه يقف بنا عند واحد من نماذج التغير التاريخي في عناصر حالة سياسية معينة، وهي أمور أدت وتؤدي إلى تأثيرات عميقة في مسار أحداث ضخمة غيرت صورة العالم من قبل، ومن الأمثلة الحديثة على هذا، ظهور شخصية السياسي البريطاني الكبير ونستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية، ودخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب نفسها إلى جانب الحلفاء، وأخيرا دخول العامل الاقتصادي الآن عنصرا مزحزِحا للمكانة السياسية الأميركية الفريدة في العالم.
وقد شهدت القضية الفلسطينية نفسها -على هذه الشاكلة- نوعا من التغيير الخطير لمواقع بعض عناصرها منذ أكثر من عقدين من الزمان، وذلك بعد فشل الدول العربية في الحفاظ على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني سواء بالحرب أو السلم، إذ تحول الشعب الفلسطيني عقب نشوب الانتفاضة الأولى -وبصورة تدريجية- إلى قوة ثورية -كما كان في ثورة عام 1936- تناضل بنفسها كبقية الشعوب التي سعت إلى الاستقلال، بعد أن كان العرب يقومون عن الشعب الفلسطيني بالنضال البديل، أو بعد أن كان الفلسطينيون يعملون قوة ثورية مضافة إلى الكيانات العربية التي يدورون في فلكها.
كما أن موقع مصر في القضية الفلسطينية قد شهد -كمثال آخر- بعض الزحزحة عن صورته الأولى منذ إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، والتي أفقدت العرب الظهور -على الأقل- جبهة واحدة مقابل إسرائيل.
وقبل الإيغال مع الاستفهام الذي يطرحه هذا المقال، أشير إلى المقصود من استعمال كلمتي "موقع" و"موقف" هنا، فالمواقف جزئية ومتغيرة، أما الموقع السياسي في قضية ما فيمثل صاحبه خلاله جزءا من القضية، ولهذا يلزم أن تكون المواقف خادمة للموقع السياسي لأي دولة.
كما أن "الموقع" بهذا المعنى لا يكون اختيارا حرا لنظام سياسي أو آخر، ولكنه "طبخة قدرية متشابكة العناصر" -إن جاز التعبير- تفرض أن يكون الموقف السياسي على هذه الشاكلة أو تلك.









والموقع الخاص لمصر في القضية الفلسطينية صنعته الجغرافية من جهة والثقل التاريخي والثقافي والسياسي في المنطقة من جهة ثانية، فقد توفر لمصر عامل "الجوار الخاص" مع أرض فلسطين المحتلة، وصار هذا عنصرا صانعا بنفسه للحدث السياسي ومحددا لاتجاهاته.
وأي جوار جغرافي له -في الحقيقة- خطورته الأكيدة على الأطراف المشاركة فيه، إلا أنه في حالات "الجوار الخاص" تدعم الجغرافيةَ التقاءات لغوية وعرقية ودينية وتاريخية بين أطرافه تجعل الحدود بينهما مصطنعة أكثر منها حقيقية، ومؤقتةً أكثر منها قابلة للبقاء.
ومن هنا لا نسوي بين جوار وجوار، فثمة فرق بين الجوار الهنغاري النمساوي والجوار الفلسطيني المصري، وثمة فرق بل فروق بين هذا الأخير والجوار الأميركي المكسيكي، وكذلك الحال إذا تكلمنا عن الجوار الإثيوبي الكيني.
من جهة أخرى، فإن هذا الجوار الخاص بين مصر وفلسطين قد زاد من أهميته الموقع الخاص المعروف للمنطقة عموما، وأن كل جزء فيها يمثل للآخر مصدرا للخطورة الهائلة أو فرصة كبيرة للاستقرار والأمن، ومن هنا بقيت مصر وفلسطين خاضعتين لحكومة واحدة لحقب زمنية طويلة قبل الإسلام وبعده، بل إن آخر من أدار شؤون غزة -تلك البقعةَ الأكثر إثارة للجدل في كل الوطن الفلسطيني الأسير- قبل الاحتلال الإسرائيلي لها في العام 1967 هي القاهرة.
وأما الثقل الخاص لمصر فهو لا ينفي أهمية الجوار السوري واللبناني والأردني لفلسطين، الذي يمثل تعدده تعددا ممتازا في رئات النضال الفلسطيني، ولكنه يشير إلى التفاوت الطبيعي في إمكانات التأثير والفعل في القضية الفلسطينية من رئة إلى أخرى.

السلام خيارا فلسطينيايرى بعض المتابعين أن اتفاقية كامب ديفد عام 1979 قد حيدت مصر وأخرجتها من الصف العربي فيما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، وأن حرب غزة 2008-2009 أوقفتها في صف إسرائيل.
والحق أن هذا القول لا يخلو من مبالغة في الحالين، وإن أشار إلى نوع من التطور المحسوس في موقف سياسي يقدم أصحابه أعذارا تحتاج إلى المناقشة في حالة، وقام على حسابات غير مدروسة جيدا في حالة أخرى.
ولعل من الواضح أن المقصود بالحسابات غير المدروسة هو وقوف الرئيس أنور السادات في كامب ديفد عند الخيار السلمي مع إسرائيل دون ترك الاحتمال لأي خيار آخر، ودون بلورة موقف عربي واحد ومدروس من المسألة قبولا أو رفضا، وهو ما ليس موضع مناقشته هنا.
وأما رصد التغير الذي طرأ على الموقف المصري من القضية الفلسطينية في المرحلة الأخيرة، فقد بدا جليا منذ انقسام الساحة الفلسطينية "الرسمية" عقب انتخابات يناير/ كانون الثاني 2006 إلى طرفين بينهما شراكة قلقة، سرعان ما انهارت انهيارا حاسما في منتصف العام 2007 حين سيطرت حركة حماس على غزة، بدا أن تغيرات بِنوية عميقة قد طرأت على البناء الوطني أو الجسم الثوري للقضية الفلسطينية، اختلف معها واقعه حتى عما كان عليه في المرحلة المحصورة بين بدء تطبيق أوسلو والانتخابات والسيطرة على غزة، وذلك لأن الحادثين الأخيرين قد حولا انقسام الساحة الفلسطينية من تنافس بين غرماء إلى تقاتل إقصائي بين خصوم.
وليس من المعقول بعد هذا التغير العميق في البيت الفلسطيني من الداخل أن تبقى المواقف العربية كما هي، إلا أن الإشكالية أن كل طرف عربي له تأثير يريد أن يجر القضية ناحية خياره هو، خاصة أن كل الخيارات صارت ممثلة بين الفلسطينيين، فهناك من يرى التفاوض المفعم بالتنازل، ومن يرى التفاوض الذي يضمن أكبر قدر ممكن من الحقوق، ومن يرى النضال المسلح وحده، ومن يرى تقديم النضال مع عدم الممانعة في شيء من التفاوض.
وبدا أن السياسة المصرية -وفقا لهذا- تعمل في القضية الفلسطينية حسب خيارها الأصلي، وهو خيار السلام والسلام وحده، الذي هو نفسه خيار أحد الأطراف الفلسطينية، وهو طرف "السلطة الوطنية".



ودعمت الرؤية المصرية موقفها بأن هذا هو الذي أعاد سيناء إلى مصر، وبما يصفه المؤيدون لها بالواقعية في مناخ عالمي عصيب، تلك الواقعية التي حمت مصر -حسب هؤلاء- من الوقوع في مثل مصير العراق الذي ساقته السياسات غير المحسوبة لقيادته البعثية إلى ما هو معروف من مصيره وحاله.
فصارت المواقف المصرية من القضية الفلسطينية تتعلق بثلاثة تعللات:
الأول: إيمان السياسة المصرية بضرورة الدفع باتجاه الخيار السلمي وحده، مع عدم الممانعة في مطالبة الأطراف الدولية المؤثرة بالضغط على إسرائيل لتخضع لهذا الخيار.
الثاني: ضرورة التأقلم مع الوضع الدولي الذي أدت مخالفته إلى تدمير العراق.
الثالث: أن الخيار المصري هو خيار "أهم طرف فلسطيني"، وهو السلطة التي تديرها منظمة التحرير الفلسطينية التي هي "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وأن مصر مضطرة إلى هذا الانحياز في ساحة مختلفة على نفسها حاولت القاهرة كثيرا أن تجمع أطرافها دون جدوى.
ومن البدهي أن نقول: إن السياسة لا تقوم على خيار وحيد إطلاقا، وإلا كانت استسلاما أو جمودا، مع أنها في حقيقتها فن الانفتاح على كل الخيارات، مع الوقوع عند التطبيق على أكثر هذه الخيارات مناسبة.
وأما التأقلم مع الأوضاع الدولية غير المواتية، التي بدت أكثر جلاء مع تفاقم حملة بوش على ما أسماه "الإرهاب"، فإن الإنسان قد يحني رأسه للعاصفة، لكن لا يمكنه أبدا أن تكون سياسة حياته أن يبقى مَحْني الرأس على الدوام.
كما أن السياسة لا بد أن تكون لها قرون استشعار تقرأ المستقبل جيدا، وتتخذ مواقعها وفقا للراجح من توقعاتها، وقد بدا في منتصف الطريق أن حملة بوش المذكورة مآلها الفشل وفقا لقراءات من داخل أميركا نفسها.
ومن هنا تصبح مقولة "الواقعية في مناخ عالمي عصيب" صنما أقامته أوهامنا، وعلينا أن نهدمه قبل أن يهدمنا.

مراهنة.. على من؟أما المراهنة على خيار السلطة الفلسطينية، وهو السلام مع الأطراف الإسرائيلية المستعدة له، فهل السلطة بوضعها الحالي طرف يمكن المراهنة عليه؟ إن شروط المراهنة على طرف ما في أي لعبة سياسية يمكن تلخيصها في نقاط يجب أن توضع في الاعتبار قبل إبرام أي قرار سياسي في هذا الخصوص، وأهمها:
- أن يكون الطرف الذي نراهن عليه قادرا على تحقيق مكاسب معقولة ومناسبة للجهد المبذول في معاونته.
- أن يكون ولاؤه خالصا للقضية التي يناضل من أجلها أو المواقف التي يختارها.
- ألا تتعارض الأهداف الرئيسة له مع أي من الثوابت الوطنية والاعتقادية للمراهِن.
- ألا يكون في الساحة نفسها بديل أكثر مواءمة منه لتحقيق أهداف المراهنة عليه.



وأحسب أن قراءة حال السلطة الفلسطينية في ضوء هذا تفرض على الأنظمة العربية التي تميل إلى خيار السلام -بافتراض أننا واقعيون تماما وأن هذا أكثر ما يمكننا فعله الآن- أن تبدأ أولا بالتركيز على إصلاح منظمة التحرير وحركة فتح، وتستخدم وسائلها في الضغط لأجل السير في هذا الطريق الضروري.
وأهم من هذا الإجراء أن نفهم جيدا أن الوقوف ضد الطرف الذي اختار مقاومة الاحتلال لا يمكن أن يمثل يوما وقوفا مع الطرف الذي اختار التفاوض مع إسرائيل، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يحقق الموقف المتوازن بين الطرفين فرصة لإعادة اللحمة بينهما أولا، ثم إنه يحقق مكاسب كبيرة للطرف المفاوض الذي سيبدو في نظر الاحتلال أقل الضررين مهما بدت شروطه التفاوضية.
وفي ضوء هذا كله لا يبدو أن السياسة المصرية تملك ما تدفع به الاتهام بأنها غيرت خلال مواقف متعددة موقعها في القضية الفلسطينية، في سيرورة لا يبدو للعقلاء إلا أنها عكس التاريخ والمنطق، وأن الاستمرار في هذا الاتجاه لا يتلاءم مع المصلحة الوطنية لمصر ولا شقيقاتها العربيات، ولا يعيد للفلسطينيين من حقوقهم كثيرا ولا قليلا.