الثلاثاء، 13 يناير 2009

الشعر العربي في شبه القارة الهندية



حين انطلق الإسلام في أرجاء العالم التي سعدت به لم ينطلق وحده، بل أخذ اللغة العربية في صحبته، يُتلَى بها القرآن الكريم، وتُروَى بها السنة الشريفة، ويتخاطب بها الفاتحون، ولولا السياسة وتقلباتها وأمور أخرى تتعلق بضعف كثافة الهجرات العربية وتغير لغة الفاتحين في الأجيال التالية لتعربت مناطق من العالم أكثر اتساعًا مما نجد الآن.


لكن العربية بقيت في كل الأحوال لغة العلوم الدينية والدنيوية الأولى طوال فترات التفوق الحضاري للمسلمين، وكانت تصنع لنفسها في بعض المناطق خنادق خاصة بها في أوساط العلماء والطلاب وسط خضم من اللغات الأعجمية التي تأثرت بها تأثرًا لم يتوقف عند حدود استعارة الألفاظ، بل استعارت منها ألوانًا أدبية وبلاغية متعددة أيضًا.



تجربة فريدة



وللغة العربية في شبه القارة الهندية تجربة تمتاز بتفرد عجيب، فعلى الرغم من أن لغة القرآن لم تكن يومًا ما لسان عموم السكان هناك، سواء تكلمنا عن المسلمين أو الهندوس، فقد سجلت هناك وجوهًا من التفرد - في الدرجة على الأقل - أهمها ما يلي:
1 - تسربت نسبة كبيرة من الألفاظ العربية إلى اللغة الهندية عن طريق اللغة الفارسية التي سبقت إلى استعارة هذه الألفاظ من لغة المسلمين الأولى، حتى بلغت تلك النسبة حوالي 40 في المائة من ألفاظ الأردية.
2 - نشأت طائفة كبيرة من أهل شبه القارة ذات صلة بالعلوم الشرعية تتقن من مهارات العربية السماع والقراءة دون النطق والكتابة، فإذا قرءوا كتابًا عربيًا أو تحدث إليهم أحد بهذه اللغة فهموه تمامًا، لكنهم يعجزون عن البيان العربي بألسنتهم بشكل كافٍ.
3 - كثرت المؤلفات العربية لعلماء شبه القارة كثرة لافتة للنظر، وذلك في علوم الشرع واللغة على السواء، وتفردوا في هذا الباب بأشياء تندر أشباهها لدى الشعوب والأقليات الإسلامية الأخرى، فقد اهتموا بشرح سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة استكمالا لجهود السابقين في شرح صحيحي البخاري ومسلم، وألفوا في بعض دقائق المسائل والقضايا مثل: كاشف الظلام عما يتعلق بالألف واللام، والقول المأنوس في القاموس، كلاهما للمفتي سعد الدين (ت 1294هـ/ 1877م)، وقصيدة لامية المعجزات (نظم معجزات النبي الكريم في حوالي 300 بيت) لحبيب الرحمن العثماني (ت 1348هـ/ 1930م)، ونظم أسماء الله الحسنى، ونظم أسماء النبي (صلى الله عليه وسلم) للشيخ محمد موسى روحاني بازي (ت 1419هـ/ 1998م).
4 - أنجب شبه القارة ولا يزال ينجب الكثير من الشعراء الذين نظموا قريضهم بالعربية، وهذا ما تهتم هذه السطور بالحديث عنه.
لم يغب عن النظام التعليمي الذي استقر في الهند على صورة «درس نظامي» الشهير هذا الرباط المقدس بين الإسلام واللغة العربية، فأولَوا علوم اللغة العربية وأدبها اهتمامًا بارزًا إلى جانب العلوم الشرعية، حتى صارت دراسة مقامات الحريري وديوان أبي الطيب المتنبي وديوان الحماسة وديوان حسان بن ثابت من ثوابت هذا المنهج.
وقد استثارت هذه الدراسة الأدبية قريحة المتعلمين، حتى شارك كثير منهم في قرض الشعر باللسان العربي، ولعل الاهتمام بحفظ هذه المتون الأدبية واستظهارها قد أسهم في تعزيز هذا التوجه نحو الشعر العربي.



سمات العربية بالهندية



ومن أهم السمات التي يمكن ملاحظتها على العربية وشعرائها في شبه القارة الهندية ما يلي:
أ- غلب الاهتمام بالعلم الشرعي على أكثر هؤلاء الشعراء، فمنهم المحدث والمفسر والأصولي والفقيه، ويندر أن نجد من بينهم من غلب عليه الأدب، ومن النوع الأخير تبرز شخصية شيخ الأدب «محمد إعزاز علي» (ت 1374هـ/ 1955م) صاحب حاشية «السحاب الصيب على ديوان أبي الطيب»، و«حاشية الفراسة لمن طالع ديوان الحماسة»، و«نفحة العرب، والواقعات المحيرة للبلاغة العربية».
ب- التقليد واقتفاء أثر الشعراء السابقين، وما يتبع ذلك من الركاكة، مع فخامة الألفاظ وغرابتها في أحايين كثيرة، حيث بدا الشعر القديم نموذجًا لا يقصر الشاعر الهندي في احتذائه، حتى في موضوعاته وطرق تعبيره، فانحصر أغلب شعرهم في المدح والرثاء. ولعل من أسباب الضعف الذي عانى منه أكثر هذا الشعر أيضًا - إضافة إلى غرابة لغة القريض على طباعهم - أن الشاعر الهندي الذي كتب بالعربية كان منغمسًا في العلم والتعليم، فانعكس ذلك في شعره. ويمكن أن تلاحظ على شعراء العربية في شبه القارة أن أسلوبهم العربي - في الشعر والنثر على السواء - يجود أحيانًا بشكل ظاهر لا مرية فيه، إلا أنه يسقط أحيانًا أخرى في حضيض الركاكة والصنعة، ويعز أن تجد فيهم خلال القرنين الأخيرين من يكتب على الدوام عربية خالصة لا عجمة فيها.
جـ- كثير من شعراء شبه القارة مقلون في نظم الشعر العربي بالقياس العام لكثافة الإنتاج الشعري بالنسبة إلى متوسط أعمار الشعراء، وقياسًا إلى عموم نشاطهم الثقافي والعلمي، ومن هنا خلا شعر الهند العربي من فحل ينضم إلى قافلة كبار الشعراء ذوي اللسان العربي.
د- كتابة الشعر بلغات أخرى (الأردية والفارسية خاصة) يكاد يكون وصفًا عامًا لجميع شعراء شبه القارة، مع تفاوت مستوى الإبداع لديهم من حيث كونه مطبوعًا أو مصنوعًا من لغة إلى أخرى - وهي مسألة جديرة بدراسة خاصة، أعني تفاوت مستوى شعر الشاعر الواحد حين يكتب بأكثر من لغة، وهو أمر يمكن ملاحظته حين نقارن شعر عبد الرحمن الرومي الذي كتبه بالعربية مقارنة بروائعه الفارسية، بل يمكن أن نلاحظه حين نقارن إبداع أحمد شوقي للشعر العامي بما سطره في تاريخ الأدب من روائع الفصحى.



شعراء وأشعار



ومن أشهر شعراء شبه القارة الهندية الذين أبدعوا شعرًا عربيًا: ولي الله الدهلوي صاحب كتاب «حجة الله البالغة»، وغلام آزاد البلجرامي الشهير بحسان هندوستان، والأمير العالم صديق حسن خان، والشيخ أنور شاه الكشميري أحد علماء ديوبند المشاهير.
واللافت للنظر هنا التقاء أصحاب الاتجاهات الفكرية والدينية المختلفة في شبه القارة الهندية على قول الشعر بالعربية، على اختلاف وتفاوت بينهم في القيمة الفنية لهذا الشعر وفي كميته.
ومن نماذج هذا الشعر التي تعبر عن تلك الخصائص: قول المفتي محمد شفيع - رحمه الله - في وداع بعض أصدقائه الذاهبين إلى الحج:


يا واقفًا لوداع وهو محتار ماذا وقوفك والأحباب قد ساروا

ما لي أراك قرير العين جامدها وليس يبكيك أطلال وآثار

ألا يحثّك طبل للرحيل ولا يهيج شوقك أذكار وتذكار

ألا يهمك أن الركب مرتحل وحمِّلت لجميع الأصحاب الأكوار

قطيب في عشي طاب مسراه لطَيبة ملؤها للحق أنوار...

ما لي أُرى بزقاق الهند مضطربًا وللرفاق إلى البطحاء تسيار

كيف التذذتَ بنوم بعد ما رحلوا وكيف ألهاك سمر ثم سمار

هلاّ انتهجت غداة البين منهجهم وكيف آوتْكَ فينا بعدهم دار


يا صاحبيّ وقوفًا بالذي سبقت له عهودكم لا مسّكم عار





هل تُبْلغان سلامًا من قريح جوىً ودّعتموه فريدًا وهو مختار



ويظهر صدق العاطفة التي أملت على الشاعر هذه الدفقة الشعرية الجميلة، خاصة أنه ما عاد يصدق أنه ودع الركب المسافر إلى الحج دون أن يكون واحدًا من أفراده، فوضعَنا وسط هذه المفارقة حيارى معه يحدونا الشوق مثله إلى الأرض الطاهرة.
ويقول الأستاذ محمد ناظم الندوي - رحمه الله - في قصيدة مناجاة بعد أداء مناسك الحج:


بسطت يدي راجيا منك غفرانا وجنة فردوس لديك ورضوانا





وتبت إليك من جميع مآثمي فرحماك رحماك وعفوًا وتحنانا


حداني الحنين سائقًا نحو بيتك العتيق الذي قد شيد صدقًا وإيمانا





فطفت به شوطا وشوطا وثالثًا وأربعة أشواط وقد تم حسبانا


ذكرتك خاليًا ففاضت مدامعي ولذت دموع العين تُسكَب تهتانا





وعهدي بعيني لا تجود بعبرة فأنى لها نبع تبجس فيضانا


لعل دموع العين تغسل حوبتي فتقبل توبتي وتنقي أدرانا



والشاعر من تلاميذ الشيخ محمد تقي الدين الهلالي الذين تلقوا عنه العربية وعلومها في الهند خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وفي هذه المقطوعة الشعرية يبدو تقليديًا في مناجاته التي أعقبت أداء فريضة الحج، وإن كشفت لنا عن التجديد الذي تحدثه الفريضة الكريمة في نفس الحاج، حتى يجود بدموع خشية كان قد جمَّدها طول العهد وكثرة مقارفة الذنوب.
ويقول الشيخ عبد الحي اللكنوي - والد الشيخ أبي الحسن الندوي «في مدح النبي» (صلى الله عليه وسلم):


خير البرية رأسهم ورئيسهم ابن الكرام أخو الندى والسؤدد


رحب الذراع حليف مجد سابغ خدن الصلاح شقيق عزٍّ سرمد


المصطفى المختار من تمت به نِعَمُ المليك الواحدِ المتوحِّد


وهذا اللون من القصائد المخصَّص لمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) شائع في آداب المنطقة بكل لغاتها، ويسمونه بالنعت، وقد أُبدعت فيه قصائد ودواوين كثيرة جدًا، حتى أن بعض شعراء شبه القارة قد لا يبدع شعرًا إلا في هذا اللون وحده. والشيخ عبد الحي نفسه لم يُعرَف له سوى مقطوعتين شعريتين، هذه إحداهما، والثانية في رثاء زوجته.
وفي خطاب إلى قادة المسلمين يقول محمد يوسف الكاملبوري:


يا قادة إسلام طال بقاؤكم قوموا وأحيوا ملة إسلام





أجروا نظام سياسة شرعية فيها صلاح رعية وإمام


ومروا عباد الله أن يتدينوا وعليكم بصلاتكم وصيام





وقال الشيخ موسى روحاني بازي في رثاء أحد العلماء:


هلموا يراعًا مع كراريس وأسرعوا لأملي حديث البين والبين مجزع





حديثي أخلائي حديث مماتكم وهذا حديث ذو شجون مروِّع


يدير الدنيا الحِمام على الورى ولم يُنجِ منه الخلقَ حصن ومِدفع





فيا خاطب الدنيا وطالبها احذرن ويا جيرة الموتى أما آن أن تعوا


ألا إنما الدنيا متاع يغرنا تفرِّق جمعًا بعدما يتجمع





فخذ للمنايا - لا أبا لك - أهبة ألم تدر أن الموت ما ليس يُدفَع


غفلنا وليس الموت عنا بغافل يغير ولا يُبقى ولا هو يُخدَع





ألا كل ما تبني، لغيرك تبتني وما تجمع الدنيا، لغيرك تجمع


فطوبى لمن يبني لعقباه دائمًا ويجمع للأخرى ولله يهجع


ليست هناك تعليقات: