الخميس، 12 فبراير 2009

الوساطة المصرية إبراء للذمة أم حفاظ على المصالح الوطنية؟


لم يُسَرّ كثيرون بمواقف الحكومة المصرية من غزة أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليها، بل بدا أن قلوبا كثيرة قد جرحتها بألم تصريحات رسمية عديدة صدرت عن القاهرة، فضلا عن المواقف العملية أثناء الأزمة.
وبالطبع لم ينته الدور المصري في غزة بتوقف القتال، بل لا يمكن أن ينتهي -على أي حال- ما دامت الجغرافيا هي الجغرافيا والتاريخ هو التاريخ. وفي الواقع الفعلي ما يزال هذا الدور يتواصل خلال الوساطة المصرية بين حماس وإسرائيل.
وعدم إمكانية إخراج مصر من المعادلة الفلسطينية ليس مشكلة ولا محل خلاف أصلا، ولا حتى مع الإسرائيليين أنفسهم، ولكن المشكلة المهمة يطرحها هذا التساؤل: هل تغيرت حقيقة الموقف المصري من غزة بعد الحرب عما كان عليه أثناءها؟
قد يقال إن هذه الدول وهذه الشعوب لم تفعل شيئا كبيرا لغزة! لكن أَنَّى لها أن تفعل والشامُ ومصر لا ينتصر أحدهما بدون الآخر أبدا، وهو أمر يعرفه كل قارئ للتاريخ منذ فصوله الأولى وحتى اللحظة الحالية، بل يعرفه الناس منذ حِقَب زمنية طويلة.
فمثلا استغاث أهل فلسطين قديما بالفرعون إخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وكتبوا إليه يقولون عن الأعداء "إنهم الآن يحاولون الاستيلاء على يوروساليم، وإذا كانت هذه الأرض ملكا للفرعون، فهل تترك يوروساليم تسقط؟" فأرسل إخناتون جيشا لدرء الخطر الداهم.
وقُل مثل ذلك عن استقرار الفتح الإسلامي لمصر، وتأمين الوجود الأموي والعباسي ثم المملوكي والعثماني في المنطقة، ودرء الخطرين الصليبي والمغولي عن العالم.. إلخ.
والتاريخ لا يكذب، ولو أهمله من أهمله في قراءة الواقع، فمع تغير بعض المعطيات والظروف في واقعٍ ما تبقى فثمة عناصر ثابتة تفرضها الجغرافيا الصارمة والثقافة والتاريخ الذي لا يمكن أن يخفى وجهه، وهي أمور لم يفت إسرائيل الاهتمام بها في جامعاتها ومؤسساتها البحثية، كما لم يفت الاستعمار الغربي للمنطقة من قبل أن يوجه جيوش باحثيه إلى دراسة الشرق قبل أن يرسل عساكره لاحتلاله.

بعد الحربردد المسؤولون المصريون في أكثر من مناسبة -خاصة بعد توقف الحرب- أن مصر أهم لديهم من كل شيء، بمعنى أن مصلحتها بالنسبة لها، مقدَّمة على مصالح الجوار العربي، وأوله الجوار الفلسطيني.
وهذه حقيقة، فنحن نقول إن قلب الإنسان أهم له من يديه ورجليه، والاحتفاظ برأسه في مكانها أهم من الاحتفاظ بعينيه. ولكن متى نقول هذا؟ متى نقول إن الرأس بدون عين أهم من العين وحدها، والقلب أهم من اليد والرِّجل بإطلاق؟
بالطبع لا نقول هذا إلا في واقع لا نملك فيه الاحتفاظ بكل شيء، فحين يوضع المريض بين يدي الأطباء فإنهم يقدمون الاحتفاظ بما تذهب الحياة بذهابه على الاحتفاظ بما تنقص الحياة بفقده، إذا كانوا مضطرين إلى هذا، أي إذا لم يستطيعوا الاحتفاظ بكل شيء.
وعند التدقيق سنجد أن احتمالات الاحتفاظ بحق سلبه عدو قوي أرجح من احتمالات الاحتفاظ بعضو من الجسد أشرف على التلف، وإن كانت الأولى أكثر كُلفة، وذلك أن العضو المريض هو جزء الذات المتملكة تتحدد أوضاعه من الصحة والمرض تبعا لعوامل قَدَرية لا دخل للإنسان فيها غالبا، وأما الحق المسلوب فهو حق منقول أو متحرك، تتحكم في تملكه قدرات صاحبه وقدرات الغاصب، وهي قدرات غير ثابتة لا بالنسبة للغاصب ولا المغصوب.


ومن هنا فإن محاولة التأقلم مع واقع أننا الأضعف، وأن عدونا هو الأقوى بممالأة السياسة الدولية الظالمة هو صيرورة ضد الفطرة، وعمل في الاتجاه غير المعقول، وواقعية غير صحيحة، بل إنه منطق يائس في مواجهة مصاعب الحياة.
حقيقة قد لا نكون قادرين الآن على مواجهة إسرائيل ومن يساندها في حروب كبيرة وصريحة، ولكن لا ينبغي أن نسلم للأجيال التالية قضية ميتة، فنرجع بها إلى الوراء خطوات بعيدة، بدلا من أن نتقدم بها ولو خطوة واحدة.
وقد كانت مصر من قبل تتخطى الواقع الدولي غير المواتي، وتقدم مساعدات لدول شقيقة وصديقة أبعد عنها كثيرا من فلسطين، كالجزائر والكونغو، حتى تحررت هذه الدول من الاستعمار في واقع قد يكون أشد صعوبة من واقع القضية الفلسطينية.
ومن هنا نقول إن عودة الموقف المصري من غزة بعد الحرب ولو إلى المربع الأول الذي كان قبل الحرب، موقف ظلم للنفس وتقصير في حقها قبل أن يكون تقصيرا في حق الأخ والشقيق.
وإذا رجعنا إلى السؤال المحوري لهذه السطور، هل تغيرت حقيقة الموقف المصري من غزة بعد الحرب عما كان عليه أثناءها؟ نقول للأسف الشديد: لم يثبت لنا إلى الآن بصورة واضحة أن حقيقة الموقف المصري من غزة قد تغيرت.
فما زالت عناصر الموقف هي هي، وأهمها الحياد حيث لا يُعْقَل الحياد، والتسوية بين الظالم والمظلوم، والأخ والعدو، وتقديم التوافق مع الخارج على آمال الداخل، واعتبار القوة هي الحكم، فالأقوى هو الذي من حقه أن يأخذ، وهكذا.
لا ينبغي على الإطلاق أن تعتبر الوساطة المصرية بين حماس وإسرائيل تقريبا بين وجهات نظر طرفين يقفان من مصر على قدم المساواة، ولا تطوعا من مصر، ولا مجرد إبراء للذمة، ولا تغلبا على حرج سياسي. بل الدفاع عن غزة دفاع عن القاهرة والأزهر والأهرام والنيل، وتملك مصر باسمها المجرد -فضلا عن وزنها الثقافي والحضاري والجغرافي وغير ذلك- أن تؤثر بقوة في اتجاه الريح في المنطقة.
ومصر تستطيع الآن على الأقل، أن تشعر إسرائيل بقيمتها دون أن تطلق رصاصة واحدة كما فعلها أردوغان، حتى لا تتجرأ تل أبيب على توظيف مصر في مربعات القضية الفلسطينية التي تفيدها فقط، فتقصيها من الحوار مع السلطة الفلسطينية منفردة بالمفاوض الفلسطيني عاري الظهر، وتقربها عندما تريد الاستفادة من الضغط على غزة.
إن الإنسان "بشخصه" من حقه أن يفعل ما يشاء، على أن يتحمل نتيجة أفعاله، أما الإنسان "بصفته" فلا يملك مثل هذه الحرية المطلقة، لأنه لن يتحمل نتيجة الفعل وحده، وهذه هي ضريبة شغل المناصب الكبيرة، فتعطي لصاحبها من الصدارة بقدر ما تأخذ من حريته.