الخميس، 2 أكتوبر 2008

القيم والمصالح في أزماتنا العالمية

انشغل كثير من المفكرين والفلاسفة طوال مراحل تاريخية مختلفة بتقديم رؤية شاملة أو فلسفة كلية تفسر كل شيء: الدين، والاقتصاد، والاجتماع، والفنون وغيرها، كما هو حال الفلاسفة الطبيعيين في اليونان القديم وهيغل وماركس في أوروبا الحديثة. إلا أن هذه الفلسفات لم يعُد لها وجود قوي الآن إلا على المستوى الأكاديمي النظري، وصارت الأحكام الجزئية أو الاختصاصية هي الأغلب.
وفي صورة عكسية لهذا -أعني التراجع من الكلي إلى الجزئي- كانت المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبيرة في الماضي محدودة الدائرة، فمهما كبرت هذه المشكلات تظل أجزاءٌ واسعة من العالم بمنأى عن تأثيرها وبمنجاة من خطرها، كما هو الحال في تفشي الأمراض على نطاق واسع، وزحف الأمم الهمجية على حصون الحضارة والثقافة، إلى أن جاء العصر الحديث بمشكلات وأزمات لا تستثني من تأثيرها أحيانًا قريبًا ولا بعيدًا، ولا متقدمًا ولا ناميًا. ومن ذلك:
- مشكلة الانحباس الحراري الذي أصاب الأرض كلها من جراء الاستهلاك غير المنضبط للثروات، والتصنيع المرتبط بالإنتاج وزيادته، دون متابعة لما قد ينتج عن عملية التصنيع هذه من سلبيات تضؤل أمامها كل زيادة في الإنتاج.

- وكذلك الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي أفقدت العالم رشده، ولا ندري كم بقي لها من فصول متفق على أنها ستأتي، ولكن لا نعرف حجمها بالتحديد.
والحقيقة أن عجز الحضارة الحديثة عن الحفاظ على مصالحها مع مراعاة القيم في وقت واحد هو السبب في هذه الأعطاب الكبيرة، إذ هو المناخ الذي تُولَد فيه مثل هذه الأزمات والمشكلات العالمية الخطيرة.
يمتاز الإنسان عن شركائه في عالم الأرض بما يراعيه ويحفظه من قيم تأخذ موقع الرمز والكلّيّ الذي يُفسَّر كل شيء في ضوئه، سواء كانت قيمًا أخلاقية أو جمالية أو عقلية.
والارتباط بين الإنسان والقيم ليس مجرد حِلية معيشية تزين النوع الإنساني، بل هي علاقة عضوية تتهدد حياةُ الإنسان مع انقطاعها، وحين يوغل الإنسان في معاكسة القيم تتراكم فوق حياته عوامل الفناء، حتى يصير خبرًا يُتلَى.
ولأجل هذا تبدو القيم بالنسبة للحياة الإنسانية بمنزلة الخيوط التي تكوّن النسيج المعنوي للإنسان ونظام حياته كلها، دون أن تكون هذه القيم بمنأى عن المادة والجسد والتصرفات الإنسانية الملائمة لهما.
وقد اهتز موقع القيم في حياة الإنسان الحديث منذ تأخر موقع الدين في حياته، والدين -كما يقولون- هو أبو الأخلاق، وإن عاش الإنسان بأخلاق دون أن يكون متدينًا فلن يأخذ منها إلا على أساس انتقائي لا يقي حياته أسباب العطب، لأن الأخلاق الانتقائية تتآكل عادة تحت مطرقة المادة التي تغري صاحبها بالإيغال في اللأخلاقية.
ولأجل هذا قد نقول هنا إن الإنسان قد يصنع الحضارة بدون دين، لكن الحضارة نفسها لا تستمر بدون الدين الذي يتولى الحراسة والتوجيه، ويؤسس السعي الإنساني على أصول تصل الشهادة بالغيب، والبدن بالروح، والأرض بالسماء.
ولا يعني ما سبق أن إنسان عصرنا وحده هو الذي لم يراع القيم، بل فعلت هذا أجيال بشرية كثيرة قبله، لكن الجديد هو أن الوسائل التي يمتلكها الإنسان المعاصر صارت متعاظمة بشكل لا يقارن معه ما كان يملكه الإنسان القديم منها، ومن هنا فإنه يجد ما يعينه على الإيغال في تصرفات تنحدر به نحو نهاية مأساوية أو مصير محزن جدًا.
يُضاف إلى هذا أن الإنسان الحديث والمعاصر قد يَمثل بين يديه أكبر عدد من التجارب الناجحة والفاشلة في العيش فوق الأرض وصناعة الحضارة وإنتاج الثقافة، ومن هنا كان عدم تنبهه إلى عوامل النجاح والفشل العميقة في هذه التجارب، أو تنبه بعض المفكرين والفلاسفة الكبار وحدهم إلى هذا دون أن يكون لذلك مردود واقعي حقيقي.. كان هذا دليلا على أن الإنسان يتحرك مسوقًا بالرغبة لا بالإدراك، وأن القيم لم تعد موضع اهتمامه، وأن ادعاء عقلانية الحضارة القائمة وتجريبيتها لا يتجاوز الأقوال والادعاءات المجردة.

لعل طبيعة التجربة الغربية في الانتقال إلى العصر الحديث هي التي ساقت الغرب إلى الإيغال في رعاية المصالح والمصالح وحدها في المقام الأول، مع التخلص التدريجي من عامل القيم، أو على الأقل تأخيره إلى رتبة دنية، وذلك لأن الاصطدام مع الدين وقيم الحياة الأوروبية السائدة قبيل عصر النهضة اقترن به اكتشاف المنهج التجريبي الذي هو سر الحياة المادية، حيث أوغل الإنسان معه في اكتشاف الوجود وتطويعه والانتفاع بما بث الله فيه من النعم والمنافع.
ووُضِع الدين والمصالح المادية في العقلية الغربية الناهضة كطرفين متقابلين، وغذت هذا أمور أهمها:
- النجاحات المادية المتتالية المتعاظمة التي كانت تحققها العقلية والآلة الأوروبية منذ بدأت صدمة الحداثة الهائلة.
- عجز الكنيسة وقيمها عن الدفاع عن نفسها في وجه السيل الهادر الذي اقترن بالحداثة الأوروبية، حتى أنها -أي الكنيسة- اضطرت في النهاية إلى الاستسلام والتأقلم مع الوضع الجديد.
- عدم وجود بديل حضاري بارز في الواقع المعاش حينئذ يجمع بين القيمة والمصلحة، وإن امتلك الإسلام هذا فإن المسلمين كانوا قد تخلفوا عنه كثيرًا، وهو فصام قديم بين الطرفين عززه ميراث العداوة بين أوروبا والعالم الإسلامي.
على أية حال، فقد اندفع الإنسان الحديث نحو مصالحه، ومع أنه لم يفصم القيم عن المصالح مرة واحدة، فإنه كان ينحدر في هذا الاتجاه تدريجيًا، وحين جاءه النذير اقتصاديًا في الكساد العالمي عام 1929، والحرب العالمية الثانية بين عامي 1939 و1945 أفاق إلى نفسه قليلا، وراحت الأقلام تتجرد للحديث عن أزمة الإنسان وليس أزمة المادة. إلا أن ذلك لم يدم طويلا، وعاد الإنسان من جديد يسير في اتجاه الفصل بين المصلحة والقيمة، خاصة مع عودته القوية من جديد إلى حصد النتائج المبهرة لتقدم العلم التجريبي.
ومع هذا لم تنفك الأزمات الكبرى تظهر في سماء كوكبنا من وقت إلى آخر، وكأنها لون من الإنذار المبكر لبني الإنسان قبل أن تفتك السنن الإلهية بهذا الساكن الأرضي المتمرد.

ومن العجيب أن نعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي قبل أقل من عقدين من الزمان واحدا من هذه الإنذارات، فمع أن الغرب عمومًا قد طار فرحًا بسقوط الدولة السوفياتية العتيدة، وكذلك فعل المسلمون، فإن الفريقين للأسف لم يتنبها –عمليًا على الأقل– إلى أن الفصل بين القيمة والمصلحة هو سبب فشل التجربة الشيوعية السوفياتية.
وبدا الأمر عند المسلمين انتصارًا للدين، وعند الغربيين انتصارًا للقيم الرأسمالية، ولم يتبين الأولون أنهم لا يتمسكون جيدًا بهذا الدين الذي انتصر، ومن هنا لم يكن من حقهم أن يفرحوا كثيرًا بهذا الانتصار.
وأما الغربيون ففاتهم أنهم واقعون في المخالفة نفسها التي أسقطت الاتحاد السوفياتي ولكن بصورة أخرى، فالفحص والمقارنة العميقة للتجربتين الرأسمالية والشيوعية تصل بنا إلى أنهما تنوع في الخطأ، وليستا حالتين متقابلتين.
بعد الخلل الكبير الذي وقع في حياتنا جراء هذه الأزمات الكبرى التي نعيشها بيئيًا واقتصاديًا، صرنا مضطرين إلى تعديل المسار، وكان يمكننا من قبل أن نرشّد المسيرة الإنسانية بإدراك الدروس العميقة في التجارب البشرية السابقة منذ القدم وحتى وقتنا هذا، وكلها تؤكد ضرورة رعاية القيم عند البحث عن المصلحة، وأن المنفعة قد تتحقق بدون قيم، ولكن الأزمات ستتراكم نتيجة لهذا حتى تفاجئنا بطامة كبرى كهذه التي نعيشها الآن.
المهم أننا صرنا مضطرين إلى الإصلاح والتغيير أو العودة إلى الرشد، وفرق كبير بين هذا الاضطرار وبين مراعاة الرشد منذ البداية، كالفرق بين من يتقي المرض منذ البداية وبين من يتركه حتى يتمكن من بدنه ثم يبحث له عن دواء:
- ففي حالة الاهتمام بالوقاية من العطب الحضاري منذ البداية، وإيلاء المنظّرين والمفكرين المهتمين بهذا الجانب رعاية خاصة، والاستفادة العملية من جهودهم، سنتجنب الثمن الباهظ الذي ندفعه لعلاج هذه الأزمات الكبرى.
- وأما في حالة البحث عن العلاج بعد وقوع المحظور، فليس هناك ما يضمن لنا أن ننجح في علاج الأزمة بعد وقوعنا فيها، أي أننا قد نبذل الكثير والكثير من الجهد والمال دون أن نصل إلى النتيجة التي نأملها.
إن السنن الإلهية قد أوجبت أن ينتج عن الفعل المستقيم للمجتمع البشري –غير الثمرة الأخروية للأفراد- ثمرة دنيوية طيبة أيضًا، وعن فعله المنحرف ثمرة دنيوية خبيثة –عاجلا أو آجلا– حتى يرى المجتمع الإنساني عيوب نفسه ومحاسنها في ثمرة أفعاله، ولعل القرآن أشار إلى جانب من هذا في قول الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (سورة الروم:41).
ومن المفروض بعد هذا أن يتخذ الإنسان إزاء الثمرات غير الطيبة لأفعاله إجراءات تصحيحية حقيقية، تتجاوز الاهتمام بالسطح إلى رعاية اللب، وتتخطى الإجراءات العاجلة والمؤقتة إلى الخطط ذات الثوابت المدروسة.

ليست هناك تعليقات: