الثلاثاء، 13 يناير 2009

لغزة وهي تغزل ثوب التاريخ


ليس المطلوب منا –لا فرضًا ولا نفلا- أن نعلم الغيب، ولكن علينا ضرورةً أن نفقه السنن الكونية وسنن الاجتماع البشري، ونقرأ الحاضر والمستقبل في ضوئها، ونتحرك ونتصرف دون مصادمتها.
والفرق بين الأمرين –علم الغيب وفقه السنن- جد كبير، إذ إننا لسنا سحَرة ولا منجِّمين يدّعون معرفة ما سيأتي، كما أن زمن الأنبياء الذين كانوا يُطْلَعون على شيء من الغيب قد مضى. أما فقه السنن، فهو نتاج لمراكمة الخبرات المباشرة وغير المباشرة في الذهن الإنساني، وحصاد للقراءات المكرورة في المشهود من صفحات الكون والمحفوظ في صفحات الكتب وعقول الرجال. إنها حركة نفسية وعقلية دؤوب تحقق للإنسان جانبًا مهمًّا من معناه.

ولا ينبغي أن نفهم أن القول بهذه السنن التي تحكم الاجتماع البشري قول بالجبر، وأن الإنسان لا يملك من أمر نفسه شيئًا، فهو –وفقًا لهذا التوجه- مسيَّر في فعله وتركه، ونتيجة فعله محتومة ومعلومة سلفًا كما نعلم حركة الشمس والقمر ودورة الماء في الطبيعة وغير ذلك– أقول: لا ينبغي أن نفهم أن القول بهذه السنن قول بالجبر، إذ إن هناك فرقًا واضحًا بين أن نقول بالانضباط الناموسي العام لحركة المجتمع الإنساني، وبين القول بالجبر في الفعل الفردي.
وتوافقًا مع هذا الفقه للسنن لا ينبغي أن نقرأ الأحداث ولا المشاهد التاريخية المتصلة بعزل بعضها عن بعض، ولا أن نقتطع المواقف من سياقاتها، ولا أن ننشغل بالقشور عن اللباب، بل تُوصَل الفروع بأصولها وتُربَط بجذورها، ويُفهَم مجمل المستور بالمكشوف والمجهولُ بالمعلوم، ويوقف على اللب والحقيقة بالنظرة العميقة والحدْس الصادق.
وها هي غزة بمدنها وقراها ومخيماتها تغزل للتاريخ ثوبًا، وتسجل فيه سطرًا مهمًّا في ظروف دقيقة وشديدة الصعوبة، دفعت صعوبتها بعض المحللين العرب –فضلا عن غيرهم- إلى اعتقاد أنه لا جدوى من مقاومة الحصار القاسي المضروب عليها، وأنه ليس أمام غزة إلا خيار واحد، وهو النزول على شروط الاحتلال، حتى يُفَك الحصار.
بل بدا من أهل غزة أنفسهم من أصابه الإحباط من شدة وطأة الحصار، وأنه يجب على الحكومة (المقالة) وبقية الفصائل الفلسطينية في غزة أن تقبل شروط التهدئة كما تقدمها إسرائيل، والخيار الآخر –حسب هذا الرأي- هو الموت والفناء.
وبعض أولئك المحللين –قولا للحق- قصد ألا نترك غزة لمصيرها "المحتوم" وأن يتحمل العرب والمسلمون مسؤوليتهم التاريخية التي لا خيار لهم بين تحملها والتخلي عنها.
وأما أهل غزة، فقد يئس كثير منهم من أن يفعل العرب والمسلمون لهم شيئًا ذا تأثير، فبدا لبعضهم –ولهم عذرهم شيئًا ما في بحر الآلام التي يعانون منها– أن الاستسلام لشروط الاحتلال هو الحل لفك الحصار، مع أن الذي أخرج الاحتلال من غزة هو نفسه الذي يشترطون إيقافه لفك الحصار، ألا وهو المقاومة.
فهل صدق أولئك المحللون في نظرتهم المتشائمة والمدعومة بواقع معقد يحمل من دواعي التفاؤل أقل بكثير مما يحمل من دواعي التشاؤم؟
الحق أن النظر إلى المسألة في ضوء السنن التي تحكم الفعل والانفعال المتبادل بين الجماعات البشرية قد يعيننا على تقديم نظرة مؤصَّلة في هذه القضية، وأهم هذه السنن ما يلي:
- أن غلبة الفعل من طرف في صراع ما لا يعني أنه لا ينفعل، بل كل عملية تفاعل لا بد أن يفعل كل طرف فيها بقدر، وينفعل بقدر أيضًا. {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

أن التحدي يحفز قوى الإنسان على الفعل بمستوى مميز ومختلف عن المعتاد منه، ولدى الإنسان من المواهب النفسية والبدنية ما يساعده على هذا عادة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
- أن صعوبة الانتقال من حال إلى حال أثناء الفعل والانفعال الحياتي هي صعوبة عامة في كل انتقال إلى ما هو أدنى، فحتى التاجر الذي يضطر إلى تقليص نشاطه التجاري يجد صعوبات ما في بيته وعمله أثناء عملية التكيف مع الوضع الجديد. {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
- أن الأوضاع المعيشية الصعبة قد تبدو في أولها شديدة الوطأة على أهلها، إلا أن قدرة فعل الإنسان –فردًا ومجتمعًا- على التكيف مع مستويات متباينة من الحياة يضمن له الاستمرار بصورة مذهلة. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}.
- أن الإنسان إذا وجد أنه لم يبق شيء يخسره إلا البقاء والحياة نفسها، فإنه لا يحب أن يفقد كل شيء وحده.
- أن الإلف بالنسبة للطرف المغلوب يُفقِد كثيرًا من المخاطر معناها عنده، في حين أن الإلف بالنسبة للغالب الذي يُقاوَم قد يصيبه مع الوقت بالارتخاء، وقد يفقده طولُ الصراع وتتابع فصوله القدرة على فهم أي جدوى منه.
- أن فعل الذات يحرِّك فاعلين آخرين متوقَّعين وغير متوقَّعين، ويدخلهم في المعادلة بدوافع إنسانية أو دينية أو قومية أو غيرها، مما يؤثر في مستويات التفاعل عمومًا واتجاهاته ونتائجه بدرجة أو أخرى.
وإذا طبقنا هذا على حال غزة، فسنجد أنه ليس عامل من هذه العوامل، إلا وهو يعمل في صالح أهل غزة، على الرغم من الضريبة العالية التي يدفعونها في مقابله.
وهذا جزء من طبيعة الصراع بين الجماعات الإنسانية المتصارعة، ولعله يحول دون بقاء المنتصر من هذه الجماعات منتصرًا دائمًا والمنهزم منهزمًا باستمرار، بل تُتَداوَل المواقع والمواقف بين الأمم من زمن إلى آخر تبعًا لمؤهلات وعوامل متداخلة ومعقدة.
ولسنا هنا في نطاق من يتلهى بالتنظير، ولا يقدّر قيمة المعاناة التي يجدها أهل غزة تحت وطأة الحصار، ولا عمق المرارة التي في حلوقهم جراءَ التخلي العربي الرسمي عنهم والعجز العربي الشعبي عن إغاثتهم، مع المحاولات المشكورة في هذا، لكن من الضروري أن يفهم جميع الغيورين أن المقاومة هي الطريق الوحيد لحفظ حقوق الشعب الفلسطيني، وأن التأبي على الاستسلام ضروري لكل قضية تحررية، سواء قاوم أهل غزة وحدهم، أو قدَّم لهم الغرباء والقرباء يد العون، فالمقاومة هي خيار الحياة، وأما الاستسلام لشروط الاحتلال فهي خيار الموت المخزي لهذا الجيل على الأقل.
وإذا كان الحصار ومنع المؤن والزاد من أشد أساليب الحرب تأثيرًا، وقد هزمت به روما هانيبال بعد أن أعجزها ودوّخها زمنًا طويلا فقد انتصر كثير من المحصورين في القديم والحديث على خصومهم بالصبر والتماسك الداخلي، وفي أوضاع أشد خطرا من وضع غزة الآن.
وإن كان الحصار القائم على غزة أشد تعقدًا وأكثر تنوعًا في العناصر المشاركة في صناعته، فإن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان –والتي تبقى في العادة حبرًا على ورق- تحرج كثيرين وتضعهم في مأزق، خاصة مع رسائل الإعلام الفاضحة للمأساة التي يصنعها الحصار.
إن غزة بمقاومتها وصبرها تحت الحصار الذي يُرفَع حينًا ويُضرَب حينا، تؤدي إلى مزيد من غليان المراجل في المنطقة، ولا يُستثنى من ذلك دولة الاحتلال ولا الدول العربية، حتى إن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك ينتهج سلوكًا قاسيًا تجاه غزة دغدغة لمشاعر الناخب الإسرائيلي، وكسبًا لصوته لصالح حزب العمل.


والأنظمة العربية من جهتها واقعة في حرج التوافق مع المنظومة الدولية التي صيغت للمنطقة، وإقناع شعوبها التي ترقب المشهد ساخطة في الوقت نفسه.
والعجيب في هذا الأمر أن تحاول بعض هذه الأنظمة الجمع بين الأمرين، أعني التوافق مع الضغوط الدولية وإقناع شعوبها بمواقفها، ففي الوقت الذي تشجب فيه هذه الأنظمة ضرب الحصار على غزة علنًا، فإنها تمنع بنفسها وبالقوة المفرطة وصول أي معونات إنسانية عن طريقها أو بيد مواطنيها إلى من يقفون على حافة الموت من المرضى والجياع في غزة.
وقد كلَّت الأقلام والألسنة من نقد هؤلاء، وتذكيرهم بمسؤولياتهم الدينية والقومية والتاريخية، وأن غزة جزء من الأمن الإستراتيجي لجميع العرب، وأن التخلي عنها تخلٍّ عن كل شيء فاضل ومهم.
وأرى أن مواصلة الكتابة والمناشدة والتذكير في هذا الطريق صارت عبثًا من العبث الذي يضيع معه الوقت والجهد دون فائدة. والأجدى من ذلك هو الضغط على المعادلة من كل أطرافها وبكل الوسائل، حتى يضطر هؤلاء إلى التحرك تحت سياط الحرج.
إن غزة بحجمها الصغير يمكن أن تحرك بصمودها الكبير كثيرًا من السكون في العالم المحيط بها، وهذا –كما سبق القول– يشرك فاعلين حقيقيين أكثر في معادلة صنع الواقع في غزة والمنطقة، مما يؤكد لنا أكثر فأكثر أن غزة المحصورة ليست أمام خيار واحد.

ليست هناك تعليقات: