الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

عودة الرسوم المسيئة وعلاقة الأمة بذاتها


نبيل الفولي

- مراجعة ناقصة- هل ساعدناهم؟- دفاع عن الذات المهدَرة
إن كان النشر الأول للرسوم المسيئة إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أثار كثيرا من المشكلات والقضايا الخاصة بالعلاقة بين الغرب والإسلام، فهناك جانب آخر قد يثيره تكرار نشر هذه الرسوم وعودتها إلى الظهور من جديد بعد أن هدأت العاصفة الأولى، ألا وهو علاقة الغرب والمسلمين كل بذاته وماضيه.

مراجعة ناقصةففيما يخص الغرب: راجع العقل الغربي كل المقولات التي كانت سائدة لديه في قرونه الوسطى المظلمة فرفض مع الوقت أكثرها، وقبِل قليلا منها.
ولم يكن الأمر في الحالين رجحانا للمرفوض على المقبول من حيث الكم وحده، بل من حيث الكيف والخطورة كذلك، حيث رفض هذا العقل الرؤية المسيحية الأوروبية الوسيطة للمسائل المفصلية والأساسية، وقدم فيها رأيا جديدا.
ويلاحَظ أن التغيير الذي حدث في هذه المفاهيم لدى أوروبا الحديثة لم يكن تصالحا مع المفاهيم الوسيطة، بل لم يكن تعديلا جزئيا لها، وإنما هو التحول الجذري المتنوع عنها؛ فبدلا من الإله المسيحي بمفهومه المعروف مثلا عمت أوروبا نزعات الإلحاد والشك والهرطقة.
فظهرت المدرسة الاجتماعية في فرنسا مدَّعية أن العقل الجمعي هو الذي يخلق الإله والدين والعلم ومختلف الظواهر الثقافية والاجتماعية، كما أغرق كثيرون في رومانتيكية تبحث في الطبيعة عن مقدس آخر غير الإله.
وبلغ الأمر قمته بأشد إعلانات التاريخ غرابة، حين جهر العبقري المجنون فريدريك نيتشه بإعلانه الشهير عن موت الإله!.
وجاء النداء الأوربي بإعدام آخر ملك بأمعاء آخر قسيس تعبيرا عن ضرورة التخلص من تركة العصر الوسيط التي حمل أوزارها كاملة كل من الاستبداد السياسي والاستبداد الديني.
ولهذا كله يمكننا أن نتساءل عن أوروبا الحالية خاصة، التي ترتمي الدانمارك ناشرة الرسوم المسيئة في المرتين فوق صقيعها الشمالي: ماذا بقي لديها من مفاهيم القرون الوسطى عن الدين والإله والعالم والعقل والقانون والمقدس والمرأة والأسرة والسياسة والدولة والعلم والمجتمع والحياة والموت، وغير ذلك من المعاني التي يعني تبدلها تبدلا في الجذور والأسس، وتحولا في الوجهة والمقصد؟.
ولا شك أن فهم الآخر على غير حقيقته وبصورة زائفة فيها كثير من التهويل والتلفيق، لا شك أن هذا كان شائعا في تركة العصور الوسيطة الأوروبية.
وإذا كان القروسطيون الأوربيون قد وقعوا في هذا المحظور نظرا لضعف التواصل في تلك القرون الغابرة، وشيوع الأساليب العنيفة في التعاطي السياسي، وغياب المناهج العلمية والحياة الفكرية النظيفة، وشيوع التعصب المَقيت، فمما يؤسَف له أن يكون هذا هو الإدراك الغربي للآخر حتى اليوم، وبالأخص إدراكه للإسلام.
لقد صوَّرت أوروبا الوسيطة دين الإسلام وما يتعلق به من الرموز والشخصيات بصورة شائهة جدا، وتحكمت في ذلك عداوات وخصومات دينية وسياسية، فما الذي جعل الغرب الجديد يكمل التخلص من تركة القرون الوسطى دون أن يصحح هذه الصورة عن الإسلام، ولو بالفصل بين أخطاء المسلمين وبين حقيقة دينهم، وهو أمر يقتضيه المنهج العلمي الذي سوقت له أوروبا زمنا طويلا وما زالت، وخاضت لأجله حروبا دموية ضد الكنيسة والاستبداد السياسي؟.
إنها المراجعة الناقصة أو الانتقائية؛ إذ لم تبد أمام أعين القوم مصلحة قريبة في تصحيح صورة الإسلام ورموزه لديهم، مع أنهم درسوا كل شيء في هذا الدين تقريبا.
ولعل العكس هو الصحيح؛ إذ بدا لهم أن بقاء صورة الإسلام كما كانت في القرون الوسطى، أو تشويهها بشكل أكثر دهاء أعظمُ إفادة لهم.



وقد استُغلَّت الصورة النمطية التي قدمها العصر الأوروبي الوسيط للإسلام في خدمة الأهداف التنصيرية والاستعمارية الحديثة على السواء (راجع خطبة البابا الشهيرة واستشهاده بنصوص من العصر الوسيط)، بل اختلطت بذلك دراسات علمية عميقة وموسعة حول الشعوب والبلاد الإسلامية لتكون في خدمة الغازي الأوروبي، لا في خدمة الحقيقة.
لكن، ألم يكن في سلوك المسلمين المعاصرين ووضعهم المتدهور ما دفع الغرب إلى هذا الموقف دفعا، فيكون العقل الغربي في هذه الحال معذورا شيئا ما، ولا تتجاوز مشكلته في فهم الإسلام حينئذ حال التأثر بالواقع في الحكم على التاريخ والفكرة، وهو أمر وارد بقوة على أي أمة؟.
والذي يجيب على هذا السؤال بالإيجاب لابد أن يصف الغرب مع هذا بالسذاجة وضعف الخبرة، وهذا إن صح في حق الجماهير فلا يصح في حق أولي الرأي والفكر، ولا في حق الأكاديميات والجامعات العريقة التي وفرت لباحثيها حول الإسلام وشعوبه أعظم الإمكانات المطلوبة في حقل البحث العلمي الدقيق؛ من تعلم اللغات الأصلية للمسلمين، وزيارة مواقع الأحداث التاريخية في بلادهم، والحصول على أكثر المخطوطات والوثائق ندرة وأكثرها أهمية.
وهنا من حقنا أن نندهش من أن يظهر عشرات من الغربيين ممن ليست لهم في بلادهم مسؤولية سياسية رسمية أو دينية؛ عرفوا حقيقة الإسلام، وأثنوا عليه وعلى تعاليمه جهارا، أسلموا أو لم يُسلِموا؛ مثل: غوستاف لوبون، وبرنارد شو، وناصر الدين دينييه، حتى كاد الأمر يشبه الظاهرة.
وفي المقابل لا نجد شبها لهذا، إلا ما ندر في إطار الكتابات والآراء التي صدرت عن غربيين أصحاب مناصب دينية وسياسية، أو ممن لهم صلة بدوائر النفوذ الاستعماري والتنصيري؛ مثل: زويمر وليفي بروفنسال ومارجوليوث.
ثم إن كثيرا من التهم التي رُمي بها الإسلام وكتابه ونبيه قد نالت حظا واسعا من المناقشة والبيان والتفنيد بأقلام المسلمين وغيرهم من الشرقيين والغربيين، كما هو الحال مثلا في دفاع غوستاف لوبون الرائع في كتابه "حضارة العرب" عن شريعة الطلاق في الإسلام، وتعدد زوجات النبي محمد صلى الله وعليه وسلم ورده على اتهام الإسلام بأنه انتشر بالسيف.
لكن على الرغم من هذا الجهد الكبير، بقيت هذه التهم تُردَّد في وجه الإسلام ورموزه وتُكرَّر بصورة مملة، دون مناقشة ذات قيمة لهذه الجهود الحميدة التي تكفلت بالرد عليها.
ويجب أن نثير هنا في المقابل تعديل الغرب لتصوره القديم عن اليهود، فقد كانت صورة هؤلاء في العقل الغربي أشد بشاعة وقتامة من صورة المسلمين فيه، ومع هذا تغير التصور الغربي عن اليهود جذريا دون المسلمين.
وإذا أرجعنا هذا إلى كون اليهود شركاء في صناعة الحضارة الغربية الحديثة، فمن الغريب أن يصل تبديل صورتهم في العقل الغربي إلى حد تغيير عقائد الكنيسة نفسها؛ وذلك حين برأت اليهود من دم المسيح عليه السلام خلافا لمعتقدهم القديم فيه.
ثم: ماذا فعل المسلمون المعاصرون من أعمال عنف لم يفعلها الغرب حتى تُلصَق بهم وبدينهم تهم الإرهاب؟ بل ماذا فعل المسلمون من هذه الأعمال قياسا إلى ما فعله الغرب الحديث ضد كل أمم الأرض؟.
فلو قلنا إن المسلمين المعاصرين هم الذين دفعوا بالغرب إلى اتخاذ هذا الموقف السلبي من الإسلام، لكان الغرب وتعاليمه الجديدة أولى في المخيلة العالمية بتهمة الإرهاب من غيرهم.



أما ما يخص المسلمين في هذه القضية العامة؛ أعني علاقتهم بذاتهم وماضيهم، فمع أنهم لم يكملوا مراجعة تراثهم لتنقيته من كثير من الشوائب التي علقت به مع الزمن، بل لم يستطيعوا إلى الآن تصفية تدينهم بالإسلام من كثير من الأعلاق الاجتماعية والشعبية التي تراكمت عليه، فحَرَفت كثيرين منهم عن صفائه الأول بدرجات متفاوتة، مع هذا لا تزال التعاليم الإسلامية والماضي الإسلامي يمثلان للمسلمين عموما الجانب الرئيس في هويتهم وتكوين شخصيتهم.
قد يبدو هذا نوعا من الفصام بين الفكرة والحياة، وهو أمر يؤسَف له كثيرا، إلا أنه أيضا لا يخفي حقيقة واضحة تشير إلى قدرة الفكرة على البقاء، وانتظارها أجواء مناسبة لكي تبزغ من جديد.
من هنا نفهم، سواء كنا شرقيين أو غربيين، أن اعتراض المسلمين على إهانة رموزهم الدينية دفاع عن ذات تتعرض للإهدار، وإن لم يتمثلوا جوانبها بالشكل المرْضيّ إلى الآن.
وليست المسألة كما يصورها بعض الكتاب الغربيين هوسا دينيا مدفوعا بميول متطرفة واستعدادات عدوانية، ولو كانت كما تخيلوا لما شارك في الاحتجاج على المساس بالإسلام ورموزه سوى الإسلاميين والمشايخ والمتحدثين الرسميين باسم الإسلام في بلاده، فما بالنا إذا كان رجل الشارع العادي أكثر حماسة في الاحتجاج على الإهانات من الإسلاميين والمشايخ في أحيان كثيرة؟.
والمسألة في الحقيقة ليست أقل من ظاهرة فريدة في علاقة الإنسان بما يعتقد، وهو أمر تكشف عنه بصورة رمزية موحية إحدى القصص الشائعة بين الأفغان، فيذكرون أن إحدى البعثات التنصيرية نجحت في تنصير بعض المواطنين البوشتو، ودعوهم إثر ذلك إلى أحد الاحتفالات، وحدث أثناء الاحتفال أن تعرض أحد المتحدثين في الكنيسة لشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالتجريح، فقام أحد هؤلاء المواطنين ليقول له بلهجة غاضبة: لك أن تقول أي شيء، إلا أن تتعرض للنبي بسوء!.
ويروي الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه "الطريق إلى المدينة" قصة شاعر مسلم من الهند، كان مدمنا على الخمر، وفي أحد مجالس الشراب كان يتسامر مع أحد أصدقائه وقد سكر، فلمز جليسُه هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فما كان من الشاعر المسلم إلا أن ثارت ثورته، وقذف الرجل بالكأس التي في يده، وظل يبكي بحرقة على شتم النبي صلى الله عليه وسلم وإهانته في مجلسه.
إذن، قد تبدو الاحتجاجات الإسلامية في وجه الرسوم "زوبعة في فنجان" تثور وتهدأ أخيرا، إلا أنها تعبر عن معالم هوية لا تندثر إلا بالتربية المبكرة على موائد فكرية قتلت الحياة في البلاد التي نشأت فيها، وهي بالتأكيد غير قادرة على إعادة الحياة إلى العالم الإسلامي.

_________




ليست هناك تعليقات: