الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

انتخابات باكستان.. ارتياح وصدام محتمل




قال العراف
بقدر ما كان الوضع في باكستان قابلا للتفجر في حال فوز حزب الرئيس مشرف في الانتخابات البرلمانية في 18 فبراير/شباط 2008، جاء الارتياح بإعلان فوز المعارضة بأغلبية المقاعد، إلا أن المستقبل مفعم بالتوقعات. هذا هو ملخص الحدث الانتخابي الباكستاني الأخير وما يمكن أن يتمخض عنه من تطورات، وفي هذا الملخص تنطوي كل سطور الحكاية.
خوفا من الفوضىأدى اغتيال بينظير بوتو في الأيام الأخيرة من العام الماضي إلى هزة عنيفة شككت في قدرة باكستان على الاستمرار ككيان سياسي واحد، فضلا عن بقاء الجنرال السابق برويز مشرف في قيادة البلاد، فقد عمت الفوضى وانتشر العنف غير المنظم في أنحاء البلاد لأيام كانت حالكة السواد بالنسبة لها، وتعالت أصوات في بعض أقاليم باكستان تنادي بالانفصال عن الدولة الأم.
وحتى لو اعتبرنا هذه الأصوات انفعالية، فإن انطلاقها يعني شيئا خطيرا لبلاد لم تظهر على الخريطة العالمية ككيان مستقل إلا منذ ستة عقود من الزمان فحسب، وقد انقسمت بقيامها الهند إلى كيانين عام 1947، ثم عانت باكستان نفسها من انقسام آخر باستقلال بنغلاديش عنها سنة 1970، وهي في غنى تام عن أن تنقسم مثل الديدان الأولية إلى دولتين من وقت إلى آخر.

وقد أدرك النظام الحاكم في إسلام آباد صعوبة الوضع الذي عاشه عقب الاغتيال الخطير للسيدة بوتو، وأدرك كذلك أن هزة أخرى مماثلة قد تودي به تمامًا، وتدخل البلاد في فوضى عارمة، وأكثر ما يمكن أن يدفع إلى هذه الفوضى هو أن يُقال للشعب الباكستاني بعد هذا كله إن أنصار الرئيس مشرف قد نالوا ثقة الأمة، وفازوا بالانتخابات النيابية، ولو كان هذا القول صحيحا!
عرف النظام جيدا أنه لم يبق له رصيد من المؤيدين في الداخل، إلا هذا الحزب الشاحب الذي شقه من حزب الرابطة الإسلامية، وحزب المهاجرين القومي (MQM). والسبب في فقدان النظام للنصير الحقيقي والمؤثر في الداخل هو سياساته الأمنية والاقتصادية والخارجية التي صدَّعت علاقات الرئيس مشرف بكل طوائف الشعب ومكوِّناته تقريبًا، بل أسخطتها عليه بعمق واتساع ليس من اليسير علاجه.
ويأتي على رأس هذه السياسات تلك المواجهات الداخلية المستمرة التي يخوضها الجيش في أنحاء باكستان من وقت إلى آخر، والأحوال المعيشية المتردية لعشرات الملايين من أبناء الشعب الباكستاني، وكذلك انتهاك حرمة القضاء بشكل سافر، ومغازلة إسرائيل في مناسبات موسمية تحت زعم أننا "لا ينبغي أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين" كما قال الرئيس مشرف نفسه.
من هنا تجاوز نظام مشرف المناورة على الانتخابات، وربما لم يفكر، في المراحل الأخيرة على الأقل، مجرد تفكير في الإقدام على تزويرها كما فعل في مرات سابقة؛ للأسباب المذكورة آنفًا.
ولكنه لم يلغ المناورة تمامًا، بل نقلها إلى محطات أكثر تقدمًا في مسار الحدث السياسي الباكستاني، فلا تزال أمام الرئيس مشرف –بعد أن وضعت الانتخابات أوزارها- مساحة للمناورة وإبرام الصفقات مع جهات وأحزاب لديها الاستعداد لهذا.
ومن اليسير أن نعثر على بعض الأوراق الخطيرة التي تتيح أمام الرئيس الباكستاني مساحة المناورة هذه، ويتمثل أهمها في وجود سلطة فعلية في يده مدعومة ببعض مواد الدستور التي أعطته صلاحيات واسعة، وغياب الزعامات التاريخية عن أقوى حزب منافس، وأخيرًا يأتي الدعم الأميركي لمشرف باعتباره خيارًا مهمًا لها؛ خاصة أن الأميركيين صرحوا عقب ظهور نتائج الانتخابات عن أملهم في أن تعمل الحكومة الجديدة مع مشرف.
وفي مقابل هذا تأتي عوامل أخرى أقوى لا تصب في مصلحة الرئيس؛ أهمها أن سلطاته الفعلية قد تقلصت كثيرًا عقب تنازله مضطرًا عن قيادة الجيش، وكذلك تلك الثقة الكبيرة التي حصلت عليها المعارضة عبر صناديق الاقتراع؛ حتى انتقل كثير من أوراق اللعبة إلى يدها، وهو ما عبر عنه نواز شريف حين قال "يجب أن يفهم (مشرف) أنه فقد السيطرة على الأمور، ولم يعد سيد اللعبة".

صِدام في قمة السلطةوالحق أن الحالة السياسية الباكستانية بعد فوز المعارضة الكاسح بالانتخابات -على الرغم من تشابكها وكثرة تقاطعاتها- صارت تقف أمام عدد محدود من الاحتمالات فيما يتعلق بتشكيل الوزارة وطبيعة النظام القادم، إلا أن المشكلة تتمثل في التطورات التي قد تنشأ عن هذا التحالف أو ذاك، وطبيعة العلاقات التي ستنشأ بين الحلفاء أنفسهم، والعلاقات الأخرى التي ستربط هؤلاء الحلفاء بالمعارضة.
وأول هذه الاحتمالات وربما أقواها إلى الآن، هو أن يقدم حزب الشعب على إبرام صفقة مع الرئيس مشرف بتكوين حكومة ائتلافية مع حزب المهاجرين القومي الموالي للرئيس، أو مع حزب الرابطة الإسلامية جناح قائد أعظم.

ولا يخفى أن هذه الصفقة إن تمت فستكون براغماتية بامتياز، وستأتي في الأساس على خلاف ما يتمنى الناخب الباكستاني الذي كان يحلم وهو يصوت للمعارضة بعهد جديد تحت قيادة أخرى تنأى بالبلاد عن الهزات الصعبة التي تعرضت لها خلال العقد الأخير، وتكون أكثر قدرة على الموازنة بين الاستجابة للضغوط الخارجية ورعاية المصالح الباكستانية، كما هو ديدن السياسة الباكستانية طوال عقود مضت.
وتدرك زعامة حزب الشعب جيدًا موقف القوة الذي منحتها إياه نتائج الانتخابات الأخيرة، كما تدرك أن موقف الرئيس لم يعد بالقوة التي كان عليها؛ ولذلك فإنها لن تخضع بسهولة لضغوط مشرف الذي لن يكون التدخل الأميركي حاسمًا بالنسبة له، وهو ما أثبته لقاء السفارة الأميركية الذي تم بين أحد وزراء الحكومة المؤقتة وبين آصف علي زرداري زوج بينظير بوتو للتفاوض حول حكومة مشتركة.
لقد حرصت الولايات المتحدة على إبرام تحالف بين حزب الشعب والرئيس مشرف في حياة بينظر بوتو، ولم تزل حريصة على هذا بعد رحيلها؛ إذ أن واشنطن لا تقبل أن يتناحر حلفاؤها من جديد على حساب مصالحها، لكن هذا لا يعني أن الأميركيين يتمسكون بمشرف باعتباره الخيار الوحيد لهم.
إذا تم هذا التحالف فسيعني أن يبقى مشرف في موقع الرئاسة، ويتولى أحد وجوه حزب الشعب تشكيل الوزارة؛ مثل زرداري وكيل الحزب، أو تشودري إعزاز أحمد رئيس جمعية المحامين في إسلام آباد، أو مخدوم فهيم أمين نائب رئيس الحزب.
ويطمع مشرف من خلال هذا التحالف في أن يستبدل بالجزء الموالي له من حزب الرابطة تشكيلة سياسية أخرى، قد لا تقوم بالدور نفسه تمامًا، لكنها ستترك الرئيس آمنا في منصبه، وقد يرضى مشرف في هذا الصدد بشراكة سياسية تزيد في إضعاف سلطاته، لكنها ستبقي عليه في كرسي الرئاسة.
أما التداعيات التي يمكن أن تصاحب هذا التشكيل المحتمل للقيادة السياسية في باكستان، فإن تحقيق الانسجام بين الحزب وبين مشرف؛ خاصة إذا كثرت تطلعات الأخير، ليس متوقعًا لفترة طويلة في ظل وجود صقور في حزب الشعب ترى أنه لا حل إلا بإقالة الرئيس، كما هو موقف رئيس جمعية المحامين الذي لم تُرفَع عنه الإقامة الجبرية بسبب معارضته لإجراءات الحكومة ضد القضاة وجموع المحامين إلا مؤخرًا.
وسيُدفع بنواز شريف في حال إبرام هذا الاتفاق إلى صفوف المعارضة. وقد يكون من مصلحة شريف في هذه المرحلة أن يمثل المعارضة العاقلة الحريصة على باكستان، نأيًا بحزبه عن ضغوط الرئيس الأميركي جورج بوش للتحالف المطلق معه ضد ما يسميه "الإرهاب"، خاصة أنه يُتوقَّع مع رحيل الرئيس بوش عن البيت الأبيض أوائل 2009 أن يتغير كثير من ملامح الإستراتيجية الأميركية في مواجهة شبح الإرهاب.
ويرى بعض المتابعين أن من تحقق له الفوز الانتخابي في المرحلة الحالية من التاريخ السياسي الباكستاني، فإن الضغوط الأميركية ستفقده هذه الميزة، وأن موقف بعض الإسلاميين بالمقاطعة كان هو الأحكم.
لكن لا ننسى أن هؤلاء لم يقاطعوا الانتخابات إلا لأجل إضعاف شرعيتها وشرعية الرئيس مشرف معها، وليس هربًا من الضغوط الأميركية.


وأما الاحتمال الثاني للوضع السياسي في باكستان ما بعد الانتخابات، فهو أن تختار زعامة حزب الشعب التحالف مع نواز شريف والجناح التابع له في حزب الرابطة الإسلامية، فتؤول رئاسة الوزارة إلى حزب الشعب، وبالذات إلى رئيس جمعية المحامين تشودري إعزاز أحمد الذي يقع محل اتفاق من الحزبين، وتؤول رئاسة البرلمان إلى الرابطة الإسلامية في اقتسام متوازن للسلطة والحقائب الوزارية.
ولا شك في أن هذا الاحتمال يمثل خطرًا ساحقًا على الرئيس مشرف الذي توعده نواز شريف عقب ظهور بوادر انتصار المعارضة في الانتخابات بإعادة القضاة المعزولين، وعرْض شرعية وجوده في قمة السلطة على خصومه من القضاة الذين حكموا ضده وهو في عنفوان قوته.
من جهة أخرى سيزيد هذا التحالف المتوقع من ضعف حزب الرابطة جناح قائد أعظم لحساب جناح نواز شريف، فإما أن تكثر فيه الانشقاقات، أو يعود جناحا الحزب إلى الالتئام من جديد.
ولكن أين الجيش -المؤسسة الأقوى والأكبر في البلاد- في وسط هذه الأحداث؟
استضافت قناة نيو بلس (News Plus) التلفزيوينة الباكستانية عرافا ومحللا سياسيًا قبيل الانتخابات لمعرفة قراءتهما لما قد تسفر عنه الانتخابات، فأشار العراف إلى أن الرئيس مشرف سيبقى في السلطة وسط صعوبات جمة، إلى أن يتدخل الجيش ويفرض الأحكام العرفية في محاولة لترتيب الأوضاع الداخلية للبلاد.
والحق أننا لسنا في حاجة إلى العراف لنقول إن الفراغ السياسي وتفاقم الأزمة حول السلطة في البلاد قد يقود بالفعل إلى هذا الوضع؛ غير أن هذا قد يعني أيضًا الإطاحة بكل اللاعبين السياسيين في المشهد الباكستاني، والعودة إلى الوراء عقدًا آخر من الزمان.

ــــــــــ

ليست هناك تعليقات: