الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

بينظير بوتو.. هل اغتالتها تصريحاتها النارية؟


ماذا بعد؟
أصبح من المعتاد أن يُنسَب أي حادث سياسي يقع ضد الأميركيين أو الموالين لهم إلى تنظيم القاعدة تلقائيًا وخلال تصريحات تصدرها روبوتات السياسة في أميركا والدول الحليفة لها في الحرب على "الإرهاب".
حتى أننا من الممكن أن نصوغ تعريفًا شكليًا لعضو تنظيم القاعدة –وفقًا لهذا– على أنه كل من يعادي الأميركيين وحلفاءهم، ويحوِّل هذه العداوة إلى ممارسة فعلية، سواء اعترف به بن لادن والظواهري في أشرطة مسجلة أو لم يعترفا!
والذي يقرأ ردود الفعل الرسمية على حادث اغتيال زعيمة حزب الشعب الباكستاني ورئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو والتصريحات الأميركية والباكستانية التي تلته، سيخرج بهذه النتيجة.
فقد سارع رأس الإدارة الأميركية بنفسه –وقبل أي تحقيق- إلى استنكار الحادث واتهام تنظيم القاعدة بلغة لا تعني في النهاية إلا إثبات الجريمة على التنظيم، وهو ما تجاوزه المسؤولون في إسلام آباد إلى ادعاء رصد اتصالات تؤكد هذا الاتهام. وهذه الاتصالات عبارة عن تهنئة يوجهها بيت الله مسعود –الموصوف بأنه متشدد قريب من القاعدة– لأحد الأشخاص باغتيال بوتو!

مناخ الاغتيالوالحق أن رئيسة الوزراء الباكستانية –مهما كانت اليد التي اغتالتها مباشرة– قد ذهبت ضحية الاحتقان السياسي الشديد الذي صنعته سياسة الرئيس برويز مشرف، فقد أدت حدة الأزمة التي دخل فيها النظام وجيشه مع مؤسسات المجتمع من قضاة ومحامين وأحزاب وجماعات ومدارس وقبائل، إلى استنفار قوى المجتمع ضد مشروع مشرف وتوجهاته عمومًا.

وقدمت بوتو نفسها في هذه الظروف الحالكة كبديل، لكن يبدو أن خريجة هارفارد وأكسفورد لم تفهم شعبها هذه المرة كذلك، فاتكأت على مغازلة الأميركيين أكثر من طمأنة التيارات الرئيسية التي دخلت على خط المواجهة مع النظام، ما أدى إلى الحادث المروِّع الذي يثير كثيرًا من القلق على مستقبل هذا البلد ذي الوضع الحساس جدًا.
لقد عادت بوتو من منفاها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي عن طريق كراتشي العاصمة الفدرالية لإقليمها (السند)، لتدخل المعترك السياسي الملتهب في بلادها معتمدة هذه المرة على شخصيتها أكثر من اعتمادها على تراث أبيها السياسي، على خلاف ما اعتادته من قبل. وكان الأمل الأميركي أن تسهم بوتو في تخفيض التوتر بين الشعب الباكستاني وبين حلفاء واشنطن هناك في حربها على "الإرهاب"، اعتمادًا على التفاوض ثم التحالف مع النظام العسكري.
لكن بدا أن كلا الطرفين (بوتو/مشرف) يريد امتطاء الآخر في مفاوضات شكلية تضمن له الانفراد بالسلطة أو الاستحواذ على النصيب الأكبر فيها، على أن يمثل الطرف الآخر إلى جانبه بعد ذلك جزءًا من الديكور الديمقراطي المصطنع في كلا الحالين.
كان من الطبيعي أن تفشل المفاوضات بهذه الطريقة بين بوتو ومشرف، وتحوّلت رئيسة الوزراء السابقة إلى التركيز على الهجاء السياسي الصريح والجارح للنظام، والذي هدأت منه زيارة جون نيغروبونتي نائب وزيرة الخارجية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الماضي الماضي، ولكن إلى حين قريب.

وأظهرت بوتو نفسَها خلال تصريحات نارية مكرورة على أنها ستكون أفضل من مشرف في مواجهة "الإرهاب"، وطالبته بالاستقالة (مشرف يجب أن يرحل.. لقد انتهى زمن الدكتاتورية)، وهاجمت المدارس الدينية، واتهمت بعضها بأنه يصنع من الأطفال قَتَلة، بل أيدت من قبل الإجراءات العسكرية القاسية ضد طلاب المسجد الأحمر.
لكن ما لم تدركه بوتو وسط المعمعة أن الشعب الباكستاني لا يسكن في لندن ولا نيويورك، ولم يدرس في هارفارد ولا أكسفورد، بل يقطن بلادًا مشبعة بروح القبيلة في إيجابياتها وسلبياتها، وتخرجت نخبة كبيرة منه وفق نظام تعليمي لا يعطي للآخر إلا أضيق مساحة للقبول، ولو كان من أبناء الوطن وشريكًا في العقيدة.
ولعل هذا هو السر في الوهن المزمن الذي يعاني منه الكيان الباكستاني منذ نشأته، وهو السر أيضًا في المواقف المتشنجة ضد الآخر عمومًا، فإذا جاء هذا الآخر ليهدد القلاع التقليدية –التي تحتاج إلى ترشيد وليس إلى اقتلاع– لم تصبح المسألة مجرد دفاع عن موقف أو رؤية فحسب، ولكنها قبل ذلك دفاع عن ذات تتعرض لمحاولات المحو أو التشويه.
إن من الأسئلة التقليدية التي تطرح نفسها بعد حادث مروِّع بحجم اغتيال بوتو هو: من صاحب المصلحة فيه؟

وبعيدًا عن أسلوب الابتسار الذي يأخذ الإجابة من السطح دون الأعماق، يجب أن نميز صاحب مصلحة قد يهمه الخلاص من بينظير بوتو دون أن يراعي العواقب، عن صاحب مصلحة آخر قد يهمه تغييب بوتو ولكنه لا يتحمل العاقبة.
وهذا الأخير ينطبق تمامًا على نظام الجنرال السابق برويز مشرف الذي زاد حادث الاغتيال من اهتزاز الدفة في يده، وفتح الأبواب على مصراعيها نحو مزيد من الاغتيالات والاضطراب الداخلي الذي لا يتمنى أي نظام حاكم أن يدخل نفسه فيه.
وأما صاحب المصلحة في تغييب بوتو بهذا الأسلوب القاسي جدًا دون اهتمام بالعواقب الناجمة عن ذلك، فيتمثل في التنظيمات المسلحة التي استفزتها سياسات النظام، وفي قطاع كبير من المواطنين الحانقين على توجهات الساسة في بلادهم، والتي يرونهم من خلالها مجرد وكلاء عن واشنطن في إدارة البلاد.
ولهذا من حق المتابع للساحة الباكستانية أن يسأل: لماذا نفترض دائمًا وجود تنظيم وراء كل حادث اغتيال سياسي؟ إن حادث الثأر أو القتل العادي في أي مكان لا يختلف بالضرورة عن الاغتيال السياسي إلا في الدافع والشخصية التي تتعرض للاعتداء، وأحسب أن تصريحات بوتو ومواقفها من النظام قد زادت من حدة الإحباط الشعبي -خاصة في الأوساط المتدينة- في بلد بيعُ السلاح في بعض مناطقه أهون من بيع الطعام!!
من الخطأ الفادح إذاً أن ننساق وراء الدعاية فنظن أن كل أعداء أميركا في داخل باكستان هم من أعضاء طالبان وتنظيم القاعدة، إذ إن الموقف السلبي من الأميركان وحلفائهم هو الأصل لدى المواطن الباكستاني، ومن السهل لأي شخص أن يتأكد من هذا بعد حوار قصير مع عينة عشوائية من أبناء البلد.

ماذا بعد؟مهما يكن فإن الواقع الذي فتحنا أعيننا عليه منذ الخميس الماضي (27/12/2007) يقول إن شخص بينظير بوتو قد اختفى من المسرح السياسي الباكستاني كله، فماذا عسى أن تقول قراءة عناصر الواقع الداخلي بدونها؟
أما من الناحية الأمنية، فمن المتوقع ألا تمتد حالة الانفلات الأمني الواسع طويلا، خاصة مع تتابع الأدلة التي تؤكد براءة النظام –المتهم من أنصار بوتو بالتقصير في تأمين تحركاتها الانتخابية فقط– وبراءة الأحزاب المنافسة لحزب الشعب من الضلوع في جريمة الاغتيال من قريب أو بعيد.
كما أن مؤيدي بوتو لا يمثلون قوة يمكنها إثارة القلاقل الأمنية على نطاق واسع، إذ إن القوة الضاربة في حزب الشعب تتمثل في نخبة من المثقفين المدنيين الذين نشؤوا في أحضان التعليم الحديث، إضافة إلى قاعدة جماهيرية كبيرة من أهل السند ساقتها اعتبارات إقليمية أكثر من الانتماءات الفكرية.
لا يعني هذا أن الأعمال الدموية المحدودة وحوادث الاغتيال السياسي في باكستان ستتوقف سريعًا بالضرورة، وهو ما قد يدفع بالنظام إلى تأجيل الانتخابات إلى حين، وربما يلجأ إلى إعادة فرض أحكام الطوارئ بدعوى ضمان السيطرة على الوضع المضطرب.
وأما من الناحية السياسية، فإن الخريطة الانتخابية الباكستانية بعد تغييب بينظير ستزيد من إضعاف موقف الرئيس مشرف وحزبه، وسيكون الجنرال متحسبًا في الغالب لأي إجراء من شأنه استفزاز القوى الشعبية، خاصة التزوير الصريح والواسع للانتخابات، على افتراض أنها ستتم قبل أن يبرد أثر حادث الاغتيال على العاطفة الشعبية للناخب، وعلى افتراض مشاركة المعارضة بشكل واسع في العملية الانتخابية.

وأما حزب الشعب ففقد باغتيال زعيمته أكبر رصيد له في جلب أصوات الجماهير والتسويق لبرنامجه وفكره السياسي، فإما أن يتكئ على جراحه بزعامة نائب رئيسة الحزب مخدوم فهيم أمين فيشارك في العملية الانتخابية بروح التحدي، وإما أن يؤثر السلامة بمقاطعة الانتخابات كلية.
يبقى من قوى المعارضة الكبيرة بعد هذا حزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف، وقد أعلن الأخير انسحاب الحزب من الانتخابات في أعقاب عملية الاغتيال وطالب باستقالة مشرف، إلا أن التوقعات تميل إلى عدوله عن هذا القرار، خاصة مع تزايد الضغوط على النظام بعد حادث الاغتيال.
وبالتالي سيصبح حزب نواز شريف –إن صدقت هذه التوقعات- المرشح صاحب الحظ الأوفر في الانتخابات المرتقبة، سواء دخل وحده أو ضمن تحالف يجمعه مع الإسلاميين وحزب الشعب.
وآخر ما لا يُستبعَد في المشهد الباكستاني أن يضع الجيش نقطة النهاية في أسطر هذه المرحلة المضطربة من تاريخ البلاد بإبعاد مشرف، وإعطاء وعد بإجراء انتخابات حرة يعود فيها الحكم إلى المدنيين، إيذانًا بمرحلة جديدة في المسيرة السياسية للكيان الباكستاني.

ـــــــــــــــ

كاتب مصري مقيم بإسلام آباد

ليست هناك تعليقات: