الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

تجديد بناء الكعبة




د/ نبيل الفولي
حفظ الله تعالى البيت الحرام، وقامت قريش على عمارته وسقاية الحاج إلى أن جدت ظروف دعت قريشًا إلى تجديد بناء الكعبة.
وقد ذكر علماء السيرة أسبابًا لذلك أهمها:
1-أن سيلاً أتى من فوق الردم الذي بأعلى مكة فأضر بالبيت الحرام، فخافوا أن يدخله الماء.
2-أن امرأة أجمرت الكعبة فطارت شرارة في كسائها فأحرقتها.
3-أن الكعبة كانت غير مسقوفة فأرادوا رفعها وتسقيفها.
ومهما يكن من أمر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك في هذا التجديد، والبناء، وكانت سنه يومذاك خمسة وثلاثين عامًا.
وجاء في صحيح الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حين جددت قريش بناء الكعبة المشرفة كان ينقل الحجارة مع قومه، يحملها على عاتقها وإزاره مشدود عليه، فقال له عمه العباس: يا ابن أخي، لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيًا عليه ثم قال: إزاري إزاري؛ فشد عليه إزاره وقام يحمل الحجارة.
وفي ذلك حرص على ستر العورة وطهارة العرض.
وقد اتخذت قريش عدة مواقف تدل على هيبتهم وتعظيهم لذلك البيت العتيق، منها:
أولاً: حرصوا حرصًا شديدًا على أن تظل كافة النفقات بعيدة عن الرجس والسحت، حتى قال قائلهم: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.
وفي رواية لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئًا أصبتموه غصبًا، ولا قطعتم منه رحمًا، ولا أنهكتم فيه ذمة أحد بينكم وبين أحد من الناس.
وينسب هذا التحذير إلى أبى وهب خال عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول الكريم، أو إلى الوليد بن المغيرة.
ثانيا: تروي كتب السير أن الناس هابوا هدم الكعبة وأصابهم خوف شديد، فقال الوليد ابن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها . فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم تُزغ(1).
وفي رواية: اللهم لم نزغ(2)، اللهم، إنا لا نريد إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة ينتظرون ما قد يحل على الوليد من غضب الرب تبارك وتعالى، فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عمله، فاستبشر الناس، واطمأنوا إلى أن الله رضي صنيعهم فباشروا هدمها.
ثالثُا: أجمعت قبائل قريش كلها على المشاركة في شرف بناء الكعبة، فكانت كل قبيلة تجمع الحجارة على حدة وتبني الجزء المخصص لها، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيمن يحظى بهذا الشرف العظيم حتى تحزبوا وأعدو للقتال.
ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا ثم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، فقال الوليد بن المغيرة: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه.
فكان أول داخل عليهم سيدنا محمد بن عبد الله.
فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا.. هذا محمد.
فقال عليه الصلاة والسلام: هلم إلي ثوبًا، فأتي به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا.. ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه سيدنا محمد بيده الشريفة ثم بُني عليه.
وهكذا حلت كلمة الوفاق محل الشقاق ببركة سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحكمة عقله.
والملاحظ على عملية البناء هذه أنهم لم يتمكنوا من بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ـ عليه السلام ـ فأخرجوا منها الحجر وهو ستة أذرع أو سبعة.
وجعلوا للكعبة بابًا واحدًا من ناحية الشرق، وحرصوا على أن يكون مرتفعًا ليتمكنوا من السيطرة على الداخلين، فيسمحوا لمن شاءوا ويمنعوا من شاءوا.
وكان لسيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهة نظر أفصح عنها فيما بعد، فقد جاء في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة؟ ولولا حدثان قومك بكفر لنفضت الكعبة وجعلت لها بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا وأدخلت فيها الحجر.
ويعلق الإمام ابن كثير على هذا الحديث قائلا: "ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء، كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقات بالأرض شرقًا وغربيًا، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو الخليفة يومئذ، فيما صنعه ابن الزبير، اعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه، وأخرجوا منه الحجر، ورصوا حجارته في أرض الكعبة فارتفع باباها وسدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان عليه…
فلما كان في زمن المهدي ـ أو ابنه المنصور ـ استشار مالكًا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير، فقال مالك رحمه الله تعالى: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة…!!
فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك".
هذا ومما يجدر التنبيه إليه أن الكعبة شيء والمسجد الحرام شيء آخر. فالكعبة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أول الأمر وبادئ العهد، وقد يطلق عليه المسجد الحرام باعتبارها مكان السجود وقبلته، أما المسجد الحرام فهو المحيط بالكعبة، وأول من بناه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أجر البيوت من حول الكعبة واشتراها من أهلها وهدمها، وحين تولى الخلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ زاد في المسجد بشراء دور وألحقها به.
ومن يومها إلى الآن والزيادات تطرأ عليه، والتحسين والتشييد قائم على قدم وساق؛ حتى يتسع لجموع المسلمين الوافدين من كل فج عميق والمتزايدين عامًا بعد عام.
بقي تساؤل قد يطرح نفسه وهو:
هل كان للكعبة وجود سابق على زمن إبراهيم الخليل؟
والحق الذي لا مرية فيه أن ظاهر القرآن والسنة يفيد أن إبراهيم عليه السلام هو الموجه إليه الخطاب بشأن هذا البيت العتيق، وهو المكلف برفع قواعده، وتوجيه النداء التاريخي للناس بأداء الحج.
قال تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود(3)"
وقال سبحانه: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق(4)" وحين تحدث القرآن المجيد عن أولية البيت ربطه بذكر إبراهيم فقال: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين(5)"
وجاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
"قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أولا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة".
والمعروف أن المسجد الأقصى هو بناء يعقوب وهو ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم السلام، فيكون يعقوب قد اكتسب صنعة البناء من جده الخليل عليه السلام، واقتفى أثره في تشييد بيوت الله تعالى. وكل ما يذكر الناس حول البيت قبل إبراهيم عليه السلام لم يثبت به نص، ولم تقم به حجة، وهي روايات الله أعلم بها.
(1) لم تفزع الكعبة ونريد الاعتداء عليها.
(2) لم ننحرف عن دينك وتعظيم بيتك.
(3) سورة البقرة: الآية 125
(4) سورة الحج الآيتان (26-27)
(5) سورة آل عمران، الآيتان (96-97)

ليست هناك تعليقات: