الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

الثورة الفلسطينية والظهير المفقود


نبيل الفولي
الظهير الضعيف الظهير المفقود
منذ عقود طويلة بدأ الفلسطينيون يشتمون رائحة التآمر على حقوقهم في بلادهم, خاصة عقب هبوط المحتل البريطاني الأرض المباركة وفي يده عصا الخراب قبل تسعين عاما (1917م) حيث بدأت فلسطين توضع على خارطة الصفقات السياسية الدولية بشكل جديد يُعد تطورا لاتفاقية سايكس بيكو، وذلك عقب تصريح بلفور الشهير الذي تضمن مجموعة جمل تحولت إلى مدافع وصواريخ ودبابات وطائرات (إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية).

لم يؤد التصريح إلى قيام الدولة العبرية مباشرة –مع أنه جاء معلنا ومباشرا في معناه- إلا أنه مهد بقوة لبناء الدولة، حيث تقاطر الدعم المالي اليهودي للمشروع الصهيوني من كل جهة، وهاجر مئات الآلاف من اليهود إلى فلسطين خلال ثلاثة عقود من هذا التاريخ، كما اتسعت أعمال بيع الأرض الفلسطينية لليهود، وتهريب السلاح من الخارج إلى المستعمرات اليهودية في فلسطين.
وقد لعب الحس الديني والوطني ممتزجَين دورهما في دفع الفلسطينيين وبعض العرب إلى مقاومة الإعصار الآتي منذ البدء.
والذي يطالع أحداث فلسطين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي يعاين الشعور الصادق لدى الناس هناك بالخطر الزاحف على بلادهم وهويتهم كلما زاد النشاط الصهيوني في فلسطين، مثلما كان الحال في الأندلس قبل قرون من ذلك عندما كانت تشتد حركة الاسترداد الإسبانية.
ولم يقتصر الشعور الفلسطيني بالخطر على المثقفين منهم أو حتى المتعلمين دون غيرهم، بل شمل كل البيئات الفلسطينية دون استثناء للفلاحين في حقولهم ولا البدو في صحرائهم.
نعم، كانت للشباب المثقف في هذا الوقت جهودهم في توعية الناس بالخطر الزاحف –كما يسجل أحمد الشقيري في شهادة مباشرة على أحداث الثلاثينيات بفلسطين– إلا أن هذه التوعية ليست هي التي صنعت الوعي الفلسطيني بالخطر، وإن شاركت في تقويته وتوجيهه؛ إذ إن الأعمال الثورية والفدائية ضد الإنجليز واليهود في فلسطين سابقة على ذلك.
ويبدو أن فصول المؤامرة التي دبرها الإنجليز والفرنسيون في سايكس بيكو، وطبقوها بالتحالف مع "الثورة العربية" ضد تركيا، ونال فلسطين بعض شرها، قد أشعر الفلسطينيين والعرب بخطورة ما يُدبَّر لهم، وأن ما يتم إعطاء وعد به اليوم فإنه قد يصير واقعا على الأرض في الغد.
كما كانت لتضحيات عز الدين القسام ورجاله فعل السحر في نفوس الناس –من هذه الناحية– إضافة إلى المزاعم التي صاحبت الفكرة الصهيونية بوجود حقوق تاريخية لليهود في فلسطين.

الظهير الضعيفمهما يكن، فقد ترجمت عن هذا الوعي الفلسطيني حينئذ أحداث صغيرة وكبيرة أهمها: أحداث حائط البراق عام 1929، والثورة العربية سنة 1936 وما بعدها.

والحقيقة أن حادث البراق -رغم خطورته وأهميته- لا يعدو أن يكون تحرشا متبادلا بين العرب واليهود أدى إلى بعض القتلى في الجانبين. وأما أحداث عام 1936 وما بعدها فهي عمل ثوري متكامل لم يأخذ في أدبياتنا العربية والفلسطينية حقه المناسب من التقدير إلى الآن.
حقيقة ثمة تغييب مريب لهذه الثورة وأحداثها الخطيرة، حتى على يد العرب أنفسهم، وكأننا غُلبنا بكل فئاتنا لعقلية إبراز الشخص على حساب الحدث، فشخصيات كبيرة مثل القسام وعبد القادر الحسيني وأمين الحسيني –رحمهم الله– شخصيات مهمة حقا، إلا أنهم أُخذوا من سياق الثورة ووُضعوا كشخصيات مجاهدة مجردة من الحدث الذي يكشف سر عظمتهم، وهذا الحدث هو تفعيل الأمة وإنزالها إلى الساحة لتناضل وتجاهد عن حقوقها.
كانت الثورة العربية في فلسطين الثلاثينيات حدثا كبيرا، وتدل على ذلك عينة من أرقامها وأحداثها كما يلي:
1 – لم تكن الثورة مجرد احتجاجات شعبية عارمة بل شهدت كثيرا من فصول التفاوض السياسي المحترف، وكثيرا من المعارك القتالية أيضا بدءا بأعمال عز الدين القسام ورجاله التي مهدت لها، ثم فوزي القاوقجي الذي قدم من العراق ودخل فلسطين في أغسطس/آب 1936 ومعه متطوعون من عرب الشام وغيرهم، كذلك الشيخ محمد الأشهر وسعيد العاصي القادمَين من سوريا برجالهما بعد ثورة أخرى نشبت ضد الفرنسيين هناك.
2 - عمّ الإضراب أثناء الثورة أنحاء فلسطين مدنا وقرى، وكان –في الوقت نفسه- أطول إضراب متواصل في تاريخ الشعوب (178 يوما). وهذا الاتساع الزماني والشمول المكاني يعني فاعلية عالية في الأداء الوطني، وقدرة رفيعة على تجييش الذات بكل إمكاناتها للمقاومة والدَّفع.
3 - قُدِّرت تضحيات العرب في الثورة -بحسب مذكرات الأستاذ محمد عزة دروزة "مذكرات وتسجيلات.. مائة عام من التاريخ الفلسطيني"- بحوالي سبعة آلاف شهيد وعشرين ألف جريح (وحوالي خمسين ألف معتقل)؛ أي بمجموع قدره 77 ألفا من سكان لا يتجاوز عددهم المليون الواحد. وقد لا يدل هذا الرقم بمجرَّده على شيء، ولكن إذا عرفنا قدر الخسائر في الطرف الآخر وحجم القوة التي استخدمها الإنجليز ضد الثوار لتبينت لنا أهمية الرقم المذكور.
4 – بلغ عدد القوات البريطانية التي واجهوا بها الثوار عشرات الآلاف من جنود الإمبراطورية التي كان سلاح الطيران نفسه بعض أدواتها، وتولى قيادة هذه المواجهات بعض مشاهير القادة البريطانيين مثل ويفل وهيننغ ومونتغمري.
5 - في سبتمبر/أيلول 1937 اغتيل حاكم لواء الجليل البريطاني "أندروز" على يد أربعة مجاهدين من القساميين، وفي العام التالي شهدت جنين حادثا مماثلا بمقتل مستر موفات الحاكم البريطاني وسط حراسته المشددة.

– والأهم من ذلك كله هو أن بريطانيا أعلنت تحت الضغط الثوري أن فكرة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود مستحيلة التطبيق، فصرحت في نوفمبر/تشرين الثاني 1938 بأن "الصعوبات السياسية والإدارية والاقتصادية التي تتمثل في إقامة دولة يهودية وأخرى عربية في فلسطين عظيمة جدًا بحيث تجعل مشروع التقسيم غير عملي ولا يمكن تطبيقه".
وبشكل عام، تشير هذه النقاط إلى فعل ثوري عربي قوي ومؤثر؛ يجمع بين التفاوض والاحتجاج والقتال في آن واحد، فيشتت الخصم، ويقدم له –مع ذلك- فرصة للسلم، ويضغط بالبندقية في صالح الموقف الوطني، وهي ثلاثية لازمة لأي ثورة تحررية.
إلا أن الثورات خاصة التي تواجه خصما كبيرا، تحتاج أيضا إلى ظهير يمثل لها مصدرا للقوة المادية والمعنوية، وقد توافر هذا للثورة الفلسطينية في الثلاثينيات والأربعينيات من خلال جموع المجاهدين العرب القادمين إليها من العراق وسوريا ومصر وغيرها، ومن خلال تهريب السلاح والمعونات عبر الحدود. إلا أن هذا لم يكن كافيا لتحقيق أهداف الثورة التي كان خصمها يسيطر على ربع العالم، ومن خلفه آلاف المهاجرين اليهود القادمين من وراء الزمن تحدوهم أحلام الدولة في "أرض المعاد"!!
وأما الموقف السياسي الرسمي للعرب من الثورة، فقد اعتمدوا كما عبر عبد الله بن الحسين ملك شرق الأردن في إحدى رسائله "على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتنها لتحقيق العدل" تدخل الزعماء لتهدئة الثورة في مرحلة، ثم ارتكبوا –في مرحلة أخرى- أكبر خطأ في تاريخ فلسطين المعاصر بإدخال الجيوش العربية معركة لم تستعد لها، مع إخراج الشعب الفلسطيني من معادلة الدفاع عن حقوقه، فقامت إسرائيل ووقعت نكبة العرب!

الظهير المفقودإذن لابد لأي ثورة لكي تنجح من أصل ثوري –يمثله أقرب عنصر وطني إلى الخصم– ثم ظهير مساند له؛ لذا بدا الوضع الفلسطيني منذ دخول الجيوش العربية فلسطين واستبعاد الشعب الفلسطيني من الدفاع عن حقه وضعا غير طبيعي؛ إذ صار الفلسطينيون تابعين في قضية هم أول أهلها.
ومن الطبيعي بعد ذلك أن يتحولوا مع المشهد السياسي العربي حيثما تحول، ويغيروا قبلتهم كلما غيّرها؛ وهذا لأن "الظهير" صار هو الأصل، مما أثر على الثورة الفلسطينية (التي يُفتَرض أنها عمل متواصل إلى الآن) حتى حرَفها عن هويتها؛ والسبب هو أن الظهير نفسه كان حينئذ بلا هوية ثابتة تجاه تقلبات السياسة الدولية.
كان من الطبيعي –في مثل هذه الحال المقلوبة– أن تتوالد المآسي، وتمتد في الجسد العربي عموما، ولا تقف عند حد النكبة المروِّعة في فلسطين، فبدا المشهد العربي في يونيو/حزيران 1967 وكأنه كوميديا سوداء رسمها خيال مستغرق، راح ينثر في أنحاء المسرح أشلاء جثث يظنها الرائي من خيالات المخرج، وما هي إلا الحقيقة المرة!!
لم يكن الضرر الوحيد الذي لحق بقضية فلسطين في حرب يونيو/حزيران هو احتلال البقية الباقية منها، لكن الحرب أيضًا خلقت في الواقع العربي قضايا جديدة إلى جانب قضية فلسطين نفسها، أهمها احتلال سيناء والجولان، والأثر النفسي الخطير للهزيمة، فبدا أن القضية الأم تبتعد -ولو عمليا ولدى بعض العرب على الأقل - عن بؤرة الصورة.

وهذا ما أثبتته تطورات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 حيث اكتفت مصر في معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 –بالنسبة للقضية- بالمطالبة بحق الشعب الفلسطيني في الحكم الذاتي، وأما الحرب فإن معركة أكتوبر/تشرين الأول هي "آخر الحروب" كما أعلن السادات!
وكانت هذه أول حالة يأس رسمي ومعلَن من إرجاع فلسطين، وكاد يغيب عن القضية في هذا الوقت "أصلها" الثوري و "الظهير" المساند معا، وامتدت الذراع الإسرائيلية لتعاقب الفلسطينيين في الخارج خلال حرب لبنان 1982 لإسكات آخر الأصوات المنادية بالتحرير والمهددة لأمن إسرائيل، وبدا أنه لا طاقة لأحد من العرب على مواجهة إسرائيل.
هذا، ولكن تحت السطح كان هناك عمال مهرة يعيدون نحت الفعل الثوري الفلسطيني في صخر المأساة العاتية، وعلى رأس هؤلاء الزعيم التاريخي أحمد ياسين الذي أدرك حقيقة المعادلة: شعب الداخل يتصدر المشهد، ومن خلفه أمة تدعمه وتمثل الظهير المساند له.
وقد أفلح الشيخ وأعوانه في الجزء الأول من المعادلة، وأطلق كلمته البسيطة والخالدة في آن واحد "الشعوب لها قدرة لا يفهمها أحد إلا إذا جربها ورآها". وأقلق الشبان الفلسطينيون البسطاء أمن الدولة النووية صاحبة القوة العسكرية الضخمة، وعاش بعض أساطين الدولة العبرية الكبار (بيغن وإسحق رابين وشارون) حتى رأوا الأرض تهتز من تحت أقدام إسرائيل.
إلا أن الجزء الثاني من المعادلة –وهو الظهير القوي الذي يمارس دورا متكاملا في دعم القضية– لم يتوافر للفلسطينيين إلى الآن، وما التدخلات التي تحدث من بعض الدول العربية والإسلامية لصالح القضية الفلسطينية إلا معالجات لمشكلات جزئية أو لعب على أوتار القضية خدمة لمصالح خاصة.
ما تشكو منه القضية الفلسطينية الآن هو غياب الدور العربي والإسلامي المكمل للدور الفلسطيني، ولا أعني أن الفلسطينيين قد أدوا كامل دورهم، ولكن حتى أوجه القصور في الأداء الفلسطيني القائم من الممكن أن يعالجها دور عربي وإسلامي فاعل يحمي الأرض والهوية من الاقتلاع والتذويب.

ـــــــــــــ


ليست هناك تعليقات: