الثلاثاء، 2 ديسمبر 2008

ضوابط في فقه التحرير عند حركة حماس


بقلم/ نبيل الفولي
- وجوب الجهاد- أول من يكلف بالجهاد لتحرير فلسطين- اختيار الوسيلة الجهادية تابع للمصلحة- تحريم الاعتراف بإسرائيل
يدور الجدل من آن إلى آخر حول نقاط عديدة في مشروع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الجهادي التحريري، مثل استخدام السلاح في وجه الاحتلال (عسكرة الانتفاضة) أو الاقتصار على الطرق السلمية في المقاومة، والرضا بجزء من فلسطين أو الإصرار على شعار "فلسطين من النهر إلى البحر"، وقتل المدنيين الإسرائيليين أو الاكتفاء بالعسكريين وشبه العسكريين منهم, وغير ذلك من العناوين الأخرى.

وما يمكن ملاحظته في هذا الجانب هو أننا لا نحاول في الغالب ضبط نقاط الخلاف مع هذا المشروع التحريري المهم بضوابط الفقه الإسلامي العامة، مع أن الحركة ومؤسسيها مالوا في خياراتهم إلى الانطلاق من معطيات هذا الفقه بمعناه الإجرائي والاصطلاحي الشائع لدى أهل التخصص، وذلك باعتبارهم حركة إسلامية.
وهنا سأقدم محاولة لتحديد بعض الضوابط الفقهية التي حكمت مسار حركة حماس فيما يختص بالعمل الجهادي ووسائل التحرر من الاحتلال التي تستعملها. ومصادري في هذه المحاولة هم زعماء الحركة أنفسهم بتصريحاتهم وأقوالهم ومواقفهم.
ولعل أهم هذه الضوابط تتضح في النقاط التالية:
وجوب الجهاد بشرط القدرة عليه والإعداد لهفقد سلك الشيخ أحمد ياسين في بناء حركته سبيل التدرج، في حين اعتبر أن جموع الجماهير الفلسطينية هي عدته الأولى في بناء مشروعه الطموح. ورأى أيضا أنه لابد من تأهيل هذه الجماهير وإعدادها بالشكل المناسب لهدفه، خاصة أنه قد تسلط عليهم خلال عقود متتابعة أنماط مختلفة من التغريب والتجهيل والنفي خارج قضية الوطن وإن كانوا يعيشون فيه.
مكث أحمد ياسين في التربية والتوعية والإعداد البدني والاجتماعي للناس 17 عاما (1967-1983) لم يُرد في خطته خلالها استخدام السلاح أو اقتناءه رغم شيوع ذلك حينئذ بين أتباع الفصائل الفلسطينية الأخرى، والسبب هو أن الشيخ كان حينئذ يرى أن هذه مرحلة لم تحن بعد.
وتحمل الشيخ في سبيل ذلك اتهامات وجهت إليه بالعمالة للاحتلال لأنه لا يمارس المقاومة المسلحة ضده، كما تحمل بعض الانشقاقات (حركة الجهاد الفلسطينية)، وعد كل ذلك شيئا طبيعيا لأنه ليس من المنتظر أن يكون الناس كلهم ذوي طبيعة واحدة، فمنهم المتعجل ومنهم المتأني وغير ذلك.
وحين شعر الشيخ ياسين وإخوانه المؤسسون لمشروع المقاومة بتجذر فكرتهم في عدد مناسب من الأتباع، بدؤوا عام 1983 بالانتقال إلى المرحلة العسكرية، وإن كان ذلك على سنة التدرج التي رأوها هم أيضا، فبدؤوا حينئذ بالحصول على السلاح أولا.
وقد كفل خروج العمل الجهادي لجماعة ياسين إلى العلن نوعا من الدعاية الضخمة التي وسعت من رقعة المناصرين لفكرته، وأعان على ذلك أن الشيخ عاش قضية الجماهير ومعاناتها ومشكلاتها، وفي الوقت نفسه لبى حاجة الشباب المتحمس لمواجهة الاحتلال.
معنى هذا أن ياسين وحركته يرون وجوب الجهاد والقتال لإخراج الاحتلال إذا وطئ أرضا مسلمة ولكن بشرط الاستعداد المناسب له، ولا يشترطون الإعداد الكامل التام، وأهم عناصر الإعداد في رأيهم هو إعداد الإنسان وتربيته، وكأن السلاح وتوفيره أهون في نظر حماس وقادتها من إعداد الإنسان.
لقد كان أحمد ياسين بذلك أشد وعيا بقضية الجهاد من كثير من التنظيمات الإسلامية الأخرى التي نشأت في أنحاء مختلفة من العالم العربي، تلك التي حسبت الجهاد عملا بسيطا يلقي به الإنسان عن نفسه تبعة التفريط نحو الله والدين ويتخلص من الشعور بالذنب، فيجاهد بالوسيلة والإمكانات المتاحة بغض النظر عن قيمتها وأثرها، دون أن يعتبر الجهاد في سبيل الله مشروع بناء متشعب الأركان والجوانب وله تبعاته الضخمة، وأن وجوبه لا ينفي ضرورة الإعداد له.


يرى الفقهاء أن العدو إذا طرق بلدا من بلاد المسلمين فقد تعين على أهل هذا البلد أن يجاهدوا سعيا إلى دفع العدو، فإن عجزوا عن دفعه وجب الجهاد على من بعدهم من المسلمين وهكذا (انظر الإنصاف للمرداوي الحنبلي 4/117-118)، وبذلك يبقى المسلمون في كل بلد هم الطليعة الحامية له في وجه المعتدين.
وهذا شيء واقعي تماما من الفقه الإسلامي، فمهما كانت عرى الأخوة بين المسلمين متينة وقوية فإن هذا لا يعني أن يتولى فريق منهم مسؤولية الدفاع عن مدينة أو بلد ما مع بقاء سكانه في مقاعد المتفرجين.
وربما كان الاعتماد القديم من العباسيين في المشرق والعامريين في المغرب والأندلس على جيوش من المرتزقة، وإلغاء دور الجماهير في هذا الجانب.. ربماكان ذلك هو السبب في عجز المسلمين عن دفع الاجتياحات التترية والصليبية الكثيرة التي هدمت أعظم مدن التاريخ في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، كبغداد وقرطبة وبخارى.
المهم في سياقنا هذا هو أن الشيخ ياسين استوعب فكرة أن تحرير فلسطين في الظرف العربي والدولي الراهن، لن يتحقق بدون إشراك الشعب الفلسطيني كطليعة لغيره من المسلمين في هذا.
وثبت لديه أن الكوارث المعاصرة التي تعرضت لها فلسطين منذ الثورة الكبرى (1936-1939) كان من أسبابها الرئيسية استبعاد الشعب الفلسطيني وتجريده من سلاحه، فلجأ إلى ضبط الدفة، فتوافق بذلك مع القضية الفقهية المقررة من قديم.
ولا يعني مشروع حماس هنا أن الفلسطينيين وحدهم هم المكلفون بالدفاع عن فلسطين، بل هي في نظر المشروع قضية المسلمين جميعا، وتحريرها والحفاظ عليها مسؤولية كل مسلم، وعلى رأسهم الفلسطينيون المرابطون في أرضهم.
اختيار الوسيلة الجهادية تابع للمصلحة المعتبرة شرعا

والواضح من ممارسات حماس أن الزعامة مالت إلى ترجيح جانب المصلحة في التحول بالعملية النضالية إلى العمل العسكري، مستندة في ذلك إلى أن "الانتصار على القوى المحتلة ليس بالضرورة بحاجة إلى توازن في القوى، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أي شعب أن يتحرر من الاحتلال أو يستقل" (خالد مشعل في حوار مع موقع صيد الفوائد).
والحقيقة أن معادلات الواقع هي التي تحكم مثل هذه المسائل، ففي بعض الظروف قد تبدو هذه الوسيلة أنجع، وفي ظروف وأحوال أخرى قد يبدو نقيضها أنسب وأكثر قدرة على تحقيق "المصلحة".
والنظر إلى جزء من الصورة في مثل هذه الوقائع يظلم النتيجة كثيرا، وقياس الحالات على أشباهها (كالثورة الجزائرية مثلا) يعين على جلاء الصورة. ولا ينبغي أن نثبت في أذهاننا صورة وحيدة لثورات التحرير (كالغاندية في الهند) ونفترض أن جميع حالات المقاومة يجب أن تخرج على هذه الصورة.
تحريم الاعتراف بإسرائيل، وإن كان من الوارد لدى حماس القبول بدولة على جزء من فلسطين


اعتبرت حماس الاعتراف بإسرائيل تنازلا عن الحق الإسلامي في أرض فلسطين، إذ لا إسرائيل سياسية إلا بهذه الأرض، فأفتى قادتها مرارا وتكرارا بحرمة هذا الاعتراف، وأقصى ما وافقت عليه الحركة هو الدخول في محادثات مع مسؤولين إسرائيليين لعقد نوع من الهدنة المؤقتة في بعض المراحل (كما حدث في نموذج صلح الرملة سنة 587هـ).
وعماد أدلتهم هنا أن فلسطين "أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها، حتى وإن كنا لا نملك الآن القوة اللازمة لتحريرها" (من كلام الشيخ أحمد ياسين في رسالته إلى القمة العربية التي لم تنعقد بعد)، وفي حوار لـBBC قال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي "حرام في الإسلام أن نتنازل عن جزء من أرضنا، لذا فلن نعترف بإسرائيل أبدا".
وإيمانا من الحركة بعدم مناسبة قوة حماس لإتمام مشروع التحرير الضخم، واعتبار نفسها مجرد طليعة للأمة الإسلامية المسؤولة عن عملية هذا التحرير بتمامها، عبر قادة الحركة عن قبولهم لدولة على جزء من أرض فلسطين التاريخية، فقالوا "نقبل توقيع اتفاق هدنة معها (إسرائيل)، ويمكننا العيش جنبا إلى جنب معهم، ونترك كل القضايا إلى الأجيال القادمة" (الرنتيسي في الحوار السابق).
ويبدو أن مثل هذه الأفكار أقلقت إسرائيل، فخشيت أن يكون انسحابها من غزة فرصة لحماس لتجذير وجودها في الشارع الفلسطيني أكثر، والتعويض عن الخسائر التي وقعت لها في معمعة الانتفاضة، وتقوية بنيانها التنظيمي في وجه أي اختراقات محتملة، فاتجه رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لتنفيذ خطة الانسحاب من غزة -والتي لم تلق موافقة الليكود إلى الآن- كما اتجه قبلها إلى إنزال أكبر خسارة بحماس -في تصوره- باغتيال أكبر قياداتها.

ــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات: